الشأن في العطف التناسب بين المتعاطفات ، فلا جرم أن هذا المعطوف من نوع المتعاطفات التي قبله ، وهي المحرم أكلها . فالمراد هنا النهي عن أكل اللحم الذي يستقسمون عليه بالأزلام ، وهو لحم جزور الميسر لأنه حاصل بالمقامرة ، فتكون السين والتاء في تستقسموا مزيدتين كما هما في قولهم : استجاب واستراب . والمعنى : وأن تقسموا اللحم بالأزلام .
ومن ضرب آخر كانوا يفعلونه في الجاهلية يتطلبون به معرفة عاقبة فعل يريدون فعله : هل هي النجاح والنفع أو هي خيبة وضر . وإذ قد كان لفظ الاستقسام يشمله فالوجه أن يكون مرادا من النهي أيضا ، على قاعدة استعمال المشترك في معنييه ، فتكون إرادته إدماجا وتكون السين والتاء للطلب ، أي طلب القسم . وطلب القسم بالكسر أي الحظ من خير أو ضده ، أي طلب معرفته . كان العرب كغيرهم من المعاصرين ، مولعين بمعرفة الاطلاع على ما سيقع من أحوالهم أو على ما خفي من الأمور المكتومة ، وكانوا يتوهمون بأن الأصنام والجن يعلمون تلك المغيبات ، فسولت سدنة الأصنام لهم طريقة يموهون عليهم بها فجعلوا أزلاما . والأزلام جمع زلم بفتحتين ويقال له : قدح - بكسر القاف وسكون الدال وهو عود سهم لا حديدة فيه . الاستقسام بالأزلام
[ ص: 97 ] : المقامرة على أجزاء جزور ينحرونه ويتقامرون على أجزائه ، وتلك عشرة سهام تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى وكيفية استقسام الميسر يسألونك عن الخمر والميسر الآية في سورة البقرة . وكان مقتضى الظاهر أن يقال : وما استقسمتم عليه بالأزلام ، فغير الأسلوب وعدل إلى وأن تستقسموا بالأزلام ، ليكون أشمل للنهي عن طريقتي الاستقسام كلتيهما ، وذلك إدماج بديع .
وأشهر ثلاثة قداح : أحدهما مكتوب عليه ( أمرني ربي ) وربما كتبوا عليه ( افعل ) ويسمونه الآمر . والآخر مكتوب عليه ( نهاني ربي ) ، أو ( لا تفعل ) ويسمونه الناهي . والثالث غفل بضم الغين المعجمة وسكون الفاء أخت القاف أي متروك بدون كتابة . فإذا أراد أحدهم سفرا أو عملا لا يدري أيكون نافعا أم ضارا ، ذهب إلى سادن صنمهم فأجال الأزلام ، فإذا خرج الذي عليه كتابة ، فعلوا ما رسم لهم ، وإذا خرج الغفل أعادوا الإجالة . ولما أراد صور الاستقسام امرؤ القيس أن يقوم لأخذ ثأر أبيه حجر ، استقسم بالأزلام عند ذي الخلصة ، صنم خثعم ، فخرج له الناهي فكسر القداح وقال :
لو كنت يا ذا الخلص الموتورا مثلي وكان شيخك المقبورا لم تنه عن قتل العداة زورا
وكانت لهم أزلام أخرى عند كل كاهن من كهانهم ، ومن حكامهم ، وكان منها عند هبل في الكعبة سبعة قد كتبوا على كل واحد شيئا من أهم ما [ ص: 98 ] يعرض لهم في شئونهم ، كتبوا على أحدها العقل في الدية ، إذا اختلفوا في تعيين من يحمل الدية منهم ; وأزلام لإثبات النسب ، مكتوب على واحد ( منكم ) ، وعلى واحد ( من غيركم ) ، وفي آخر ( ملصق ) . وكانت لهم أزلام لإعطاء الحق في المياه إذا تنازعوا فيها . وبهذه استقسم عبد المطلب حين استشار الآلهة في فداء ابنه عبد الله من النذر الذي نذره أن يذبحه إلى الكعبة بعشرة من الإبل ، فخرج الزلم على عبد الله فقالوا له : ارض الآلهة فزاد عشرة حتى بلغ مائة من الإبل فخرج الزلم على الإبل فنحرها . وكان الرجل قد يتخذ أزلاما لنفسه ، كما ورد في حديث الهجرة سراقة بن مالك لما لحق النبيء - صلى الله عليه وسلم - ليأتي بخبره إلى أهل مكة استقسم الأزلام فخرج له ما يكره . أن
والإشارة في قوله ذلكم فسق راجعة إلى المصدر وهو أن تستقسموا . وجيء بالإشارة للتنبيه عليه حتى يقع الحكم على متميز معين .
والفسق : الخروج عن الدين ، وعن الخير ، وقد تقدم عند قوله تعالى وما يضل به إلا الفاسقين في سورة البقرة .
وجعل الله الاستقسام فسقا لأن منه ما هو مقامرة ، وفيه ما هو من شرائع الشرك ، لتطلب المسببات من غير أسبابها ، إذ ليس الاستقسام سببا عاديا مضبوطا ، ولا سببا شرعيا ، فتمحض لأن يكون افتراء ، مع أن ما فيه من توهم الناس إياه كاشفا عن مراد الله بهم ، من الكذب على الله ، لأن الله نصب لمعرفة المسببات أسبابا عقلية : هي العلوم والمعارف المنتزعة من العقل ، أو من أدلته ، كالتجربة ، وجعل أسبابا لا تعرف سببيتها إلا بتوقيف منه على لسان الرسل : كجعل الزوال سببا للصلاة . وما عدا ذلك كذب وبهتان ، فمن أجل ذلك كان فسقا ، ولذلك قال فقهاؤنا بجرحة من ينتحل ادعاء معرفة الغيوب .
[ ص: 99 ] وليس من ذلك تعرف المسببات من أسبابها كتعرف نزول المطر من السحاب ، وترقب خروج الفرخ من البيضة بانقضاء مدة الحضانة ، وفي الحديث : " إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة " أي سحابة من جهة بحرهم ، ومعنى ( عين ) أنها كثيرة المطر .
وأما أزلام الميسر ، فهي فسق ، لأنها من أكل المال بالباطل .