إنما الله إله واحد سبحنه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم .
الفاء للتفريع عن جملة القصر وما بنيت عليه . أي إذا وضح كل ما بينه الله [ ص: 54 ] من وحدانيته ، وتنزيهه ، وصدق رسله ، يتفرع أن آمركم بالإيمان بالله ورسله . وأمروا بالإيمان بالله مع كونهم مؤمنين ، أي النصارى ، لأنهم لما وصفوا الله بما لا يليق فقد أفسدوا الإيمان ، وليكون الأمر بالإيمان بالله تمهيدا للأمر بالإيمان برسله ، وهو المقصود ، وهذا هو الظاهر عندي . وأريد بالرسل جميعهم ، أي لا تكفروا بواحد من رسله . وهذا بمنزلة الاحتراس عن أن يتوهم متوهمون أن يعرضوا عن الإيمان برسالة عيسى عليه السلام مبالغة في نفي الإلهية عنه .
وقوله ولا تقولوا ثلاثة أي لا تنطقوا بهذه الكلمة ، ولعلها كانت شعارا للنصارى في دينهم ككلمة الشهادة عند المسلمين ، ومن عوائدهم الإشارة إلى التثليث بالأصابع الثلاثة : الإبهام والخنصر والبنصر . والمقصود من الآية النهي عن النطق بالمشتهر من مدلول هذه الكلمة وعن الاعتقاد . لأن أصل الكلام الصدق فلا ينطق أحد إلا عن اعتقاد ، فالنهي هنا كناية بإرادة المعنى ولازمه . والمخاطب بقوله ( ولا تقولوا ) خصوص النصارى .
و ( ثلاثة ) خبر مبتدأ محذوف كان حذفه ليصلح لكل ما يصلح تقديره من مذاهبهم من التثليث ، فإن النصارى اضطربوا في حقيقة تثليث الإله كما سيأتي ، فيقدر المبتدأ المحذوف على حسب ما يقتضيه المردود من أقوالهم في كيفية التثليث مما يصح الإخبار عنه بلفظ ( ثلاثة ) من الأسماء الدالة على الإله ، وهي عدة أسماء . ففي الآية الأخرى لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة . وفي آية آخر هذه السورة أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ، أي إلهين مع الله ، كما سيأتي ، فالمجموع ثلاثة : كل واحد منهم إله ; ولكنهم يقولون : إن مجموع الثلاثة إله واحد أو اتحدت الثلاثة فصار إلها واحدا . قال في الكشاف : ( ثلاثة ) خبر مبتدأ محذوف . فإن صحت الحكاية عنهم أنهم يقولون : هو جوهر واحد وثلاثة أقانيم ، فتقديره الله ثلاثة وإلا فتقديره الآلهة ثلاثة اهـ .
والتثليث أصل في النصارى كلهم ، ولكنهم مختلفون في كيفيته . ونشأ [ ص: 55 ] من اعتقاد قدماء الإلهيين من عقيدة نصارى اليونان أن الله تعالى ( ثالوث ) ، أي أنه جوهر واحد ، وهذا الجوهر مجموع ثلاثة أقانيم ، واحدها أقنوم بضم الهمزة وسكون القاف . قال في القاموس : هو كلمة رومية ، وفسره القاموس بالأصل ، وفسره التفتزاني في كتاب المقاصد بالصفة . ويظهر أنه معرب كلمة ( قنوم ) بقاف معقد عجمي وهو الاسم ، أي الكلمة . وعبروا عن مجموع الأقانيم الثلاثة بعبارة ( آبا - ابنا - روحا - قدسا ) وهذه الأقانيم يتفرع بعضها عن بعض : فالأقنوم الأول أقنوم الذات أو الوجود القديم وهو الأب وهو أصل الموجودات .
والأقنوم الثاني أقنوم العلم ، وهو الابن ، وهو دون الأقنوم الأول ، ومنه كان تدبير جميع القوى العقلية .
والأقنوم الثالث أقنوم الروح القدس ، وهو صفة الحياة ، وهي دون أقنوم العلم ومنها كان إيجاد عالم المحسوسات .
وقد أهملوا ذكر صفات تقتضيها الإلهية ، مثل القدم والبقاء ، وتركوا صفة الكلام والقدرة والإرادة ، ثم أرادوا أن ، فسموا أقنوم الذات بالأب ، وأقنوم العلم بالابن ، وأقنوم الحياة بالروح القدس ، لأن الإنجيل أطلق اسم الأب على الله ، وأطلق اسم الابن على يتأولوا ما يقع في الإنجيل من صفات الله المسيح رسوله ، وأطلق الروح القدس على ما به كون المسيح في بطن مريم ، على أنهم أرادوا أن ينبهوا على أن أقنوم الوجود هو مفيض الأقنومين الآخرين فراموا أن يدلوا على عدم تأخر بعض الصفات عن بعض فعبروا بالأب والابن ، كما عبر الفلاسفة اليونان بالتولد . وسموا أقنوم العلم بالكلمة لأن من عبارات الإنجيل إطلاق الكلمة على المسيح ، فأرادوا أن المسيح مظهر علم الله ، أي أنه يعلم ما علمه الله ويبلغه ، وهو معنى الرسالة إذ كان العلم يوم تدوين الأناجيل مكللا بالألفاظ الاصطلاحية للحكمة الإلهية الرومية ، فلما اشتبهت عليهم المعاني أخذوا بالظواهر فاعتقدوا أن الأرباب ثلاثة ، وهذا أصل النصرانية ، وقاربوا عقيدة الشرك .
[ ص: 56 ] ثم جرهم فتوهموا أن علم الله اتحد الغلو في تقديس المسيح بالمسيح ، فقالوا : إن المسيح صار ناسوته لاهوتا ، باتحاد أقنوم العلم به ، فالمسيح جوهران وأقنوم واحد ، ثم نشأت فيهم عقيدة الحلول ، أي حلول الله في المسيح بعبارات متنوعة ، ثم اعتقدوا اتحاد الله بالمسيح ، فقالوا : الله هو المسيح . هذا أصل التثليث عند النصارى ، وعنه تفرعت مذاهب ثلاثة أشار إلى جميعها قوله تعالى ولا تقولوا ثلاثة وقوله لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقوله أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله وكانوا يقولون : في عيسى لاهوتية من جهة الأب وناسوتية أي إنسانية من جهة الأم .
وظهر بالإسكندرية راهب اسمه ( آريوس ) قال بالتوحيد وأن عيسى عبد الله مخلوق ، وكان في زمن قسطنطينوس سلطان الروم باني القسطنطينية . فلما تدين قسطنطينوس المذكور بالنصرانية سنة 327 تبع مقالة آريوس ، ثم رأى مخالفة معظم الرهبان له فأراد أن يوحد كلمتهم ، فجمع مجمعا من علماء النصارى في أواخر القرن الرابع من التاريخ المسيحي ، وكان في هذا المجمع نحو ألفي عالم من النصارى فوجدهم مختلفين اختلافا كثيرا ووجد أكثر طائفة منهم على قول واحد ثلاثمائة وبضعة عشر عالما فأخذ قولهم وجعله أصل المسيحية ونصره ، وهذه الطائفة تلقب ( الملكانية ) نسبة للملك .
واتفق قولهم على أن كلمة الله اتحدت بجسد عيسى ، وتقمصت في ناسوته ، أي إنسانيته ، ومازجته امتزاج الخمر بالماء ، فصارت الكلمة ذاتا في بطن مريم ، وصارت تلك الذات ابنا لله تعالى ، فالإله مجموع ثلاثة أشياء : الأول الأب ذو الوجود ، والثاني الابن ذو الكلمة ، أي العلم ، والثالث روح القدس .
[ ص: 57 ] ثم حدثت فيهم فرقة اليعقوبية وفرقة النسطورية في مجامع أخرى انعقدت بين الرهبان . فاليعقوبية ، ويسمون الآن ( أرثودكس ) ، ظهروا في أواسط القرن السادس المسيحي ، وهم أسبق من النسطورية ; قالوا : انقلبت الإلهية لحما ودما ، فصار الإله هو المسيح فلأجل ذلك صدرت عن المسيح خوارق العادات من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فأشبه صنعه صنع الله تعالى مما يعجز عنه غير الله تعالى . وكان نصارى الحبشة يعاقبة ، وسنتعرض لذكرها عند قوله تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم في سورة المائدة ، وعند قوله تعالى فاختلف الأحزاب من بينهم .
والنسطورية قالت : اتحدت الكلمة بجسد المسيح بطريق الإشراق كما تشرق الشمس من كوة من بلور ، فالمسيح إنسان ، وهو كلمة الله ، فلذلك هو إنسان إله ، أو هو له ذاتيتان ذات إنسانية وأخرى إلهية ، وقد أطلق على الرئيس الديني لهذه النحلة لقب جاثليق . وكانت النحلة النسطورية غالبة على نصارى العرب . وكان رهبان اليعاقبة ورهبان النسطوريين يتسابقون لبث كل فريق نحلته بين قبائل العرب . وكان الأكاسرة حماة للنسطورية ، وقياصرة الروم حماة لليعقوبية . وقد شاعت النصرانية بنحلتيها في بكر ، وتغلب ، وربيعة ، ولخم ، وجذام ، وتنوخ ، وكلب ، ونجران ، واليمن ، والبحرين . وقد بسطت هذا ليعلم حسن الإيجاز في قوله تعالى ( ولا تقولوا ثلاثة ) وإتيانه على هذه المذاهب كلها . فلله هذا الإعجاز العلمي .
[ ص: 58 ] والقول في نصب ( خيرا ) من قوله ( انتهوا خيرا لكم ) كالقول في قوله تعالى ( فآمنوا خيرا لكم ) .
والقصر في قوله إنما الله إله واحد قصر موصوف على صفة ، لأن ( إنما ) يليها المقصور ، وهو هنا قصر إضافي ، أي ليس الله بثلاثة .
وقوله سبحانه ( أن يكون له ولد ) إظهار لغلطهم في أفهامهم ، وفي إطلاقاتهم لفظ الأب والابن كيفما كان محملهما لأنهما إما ضلالة وإما إيهامها ، فكلمة ( سبحانه ) تفيد قوة التنزيه لله تعالى عن أن يكون له ولد ، والدلالة على غلط مثبتيه ، فإن الإلهية تنافي الكون أبا واتخاذ ابن ، لاستحالة الفناء ، والاحتياج ، والانفصال ، والمماثلة للمخلوقات عن الله تعالى . والبنوة تستلزم ثبوت هذه المستحيلات لأن النسل قانون كوني للموجودات لحكمة استبقاء النوع ، والناس يتطلبونها لذلك ، وللإعانة على لوازم الحياة ، وفيها انفصال المولود عن أبيه ، وفيها أن الابن مماثل لأبيه فأبوه مماثل له لا محالة .
و ( سبحان ) اسم مصدر سبح ، وليس مصدرا ، لأنه لم يسمع له فعل سالم . وجزم بأنه علم على ابن جني التسبيح ، فهو من أعلام الأجناس ، وهو ممنوع من الصرف للعلمية والزيادة . وتقدم الكلام عليه عند قوله تعالى قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا في سورة البقرة .
وقوله ( أن يكون له ولد ) متعلق بـ ( سبحان ) بحرف الجر ، وهو حرف ( عن ) محذوفا .
وجملة ( له ما في السماوات وما في الأرض ) تعليل لقوله سبحانه ( أن يكون له ولد ) لأن الذي له ما في السماوات وما في الأرض قد استغنى عن الولد ، ولأن من يزعم أنه ولد له هو مما في السماوات والأرض كالملائكة أو المسيح ، فالكل عبيده وليس الابن بعبد .
[ ص: 59 ] وقوله ( وكفى بالله وكيلا ) تذييل ، والوكيل الحافظ ، والمراد هنا حافظ ما في السماوات والأرض ، أي الموجودات كلها . وحذف مفعول ( كفى ) للعموم ، أي كفى كل أحد ، أي فتوكلوا عليه ، ولا تتوكلوا على من تزعمونه ابنا له . وتقدم الكلام على هذا التركيب عند قوله تعالى وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا في هذه السورة .