استئناف ابتدائي بخطاب موجه إلى النصارى خاصة .
وخوطبوا بعنوان أهل الكتاب تعريضا بأنهم خالفوا كتابهم .
وقرينة أنهم المراد هي قوله إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله إلى قوله ( أن يكون عبدا لله ) فإنه بيان للمراد من إجمال قوله لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق وابتدئت موعظتهم بالنهي عن الغلو النصارى غلوا في تعظيم عيسى فادعوا له بنوة الله ، وجعلوه ثالث الآلهة . لأن
والغلو : تجاوز الحد المألوف ، مشتق من غلوة السهم ، وهي منتهى اندفاعه ، [ ص: 51 ] واستعير للزيادة على المطلوب من المعقول ، أو المشروع في المعتقدات ، والإدراكات ، والأفعال . والغلو في الدين أن يظهر المتدين ما يفوت الحد الذي حدد له الدين . ونهاهم عن الغلو لأنه أصل لكثير من ضلالهم وتكذيبهم للرسل الصادقين . وغلو أهل الكتاب تجاوزهم الحد الذي طلبه دينهم منهم : فاليهود طولبوا باتباع التوراة ومحبة رسولهم ، فتجاوزوه إلى بغضة الرسل كعيسى ومحمد عليهما السلام ، والنصارى طولبوا باتباع المسيح فتجاوزوا فيه الحد إلى دعوى إلهيته أو كونه ابن الله ، مع الكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله ولا تقولوا على الله إلا الحق للاهتمام بالنهي عن الافتراء الشنيع . وفعل القول إذا عدي بحرف ( على ) دل على أن نسبة القائل القول إلى المجرور بـ ( على ) نسبة كاذبة ، قال تعالى عطف خاص على عام ويقولون على الله الكذب . ومعنى القول على الله هنا : أن يقولوا شيئا يزعمون أنه من دينهم ، فإن الدين من شأنه أن يتلقى من عند الله .
وقوله إنما المسيح عيسى ابن مريم جملة مبينة للحد الذي كان الغلو عنده ، فإنه مجمل ; ومبينة للمراد من قول الحق .
ولكونها تتنزل من التي قبلها منزلة البيان فصلت عنها . وقد أفادت الجملة قصر المسيح على صفات ثلاث : صفة الرسالة ، وصفة كونه كلمة الله ألقيت إلى مريم ، وصفة كونه روحا من عند الله . فالقصر قصر موصوف على صفة . والقصد من هذا القصر إبطال ما أحدثه غلوهم في هذه الصفات غلوا أخرجها عن كنهها ; فإن هذه الصفات ثابتة لعيسى ، وهم مثبتون لها فلا ينكر عليهم وصف عيسى بها ، لكنهم تجاوزوا الحد المحدود لها فجعلوا الرسالة البنوة ، وجعلوا الكلمة اتحاد حقيقة الإلهية بعيسى في بطن مريم فجعلوا [ ص: 52 ] عيسى ابنا لله ومريم صاحبة لله سبحانه ، وجعلوا معنى الروح على ما به تكونت حقيقة المسيح في بطن مريم من نفس الإلهية .
والقصر إضافي ، وهو قصر إفراد ، أي عيسى مقصور على صفة الرسالة والكلمة والروح ، لا يتجاوز ذلك إلى ما يزاد على تلك الصفات من كون المسيح ابنا لله واتحاد الإلهية به وكون مريم صاحبة .
ووصف المسيح بأنه كلمة الله وصف جاء التعبير به في الأناجيل ; ففي صدر إنجيل يوحنا : في البدء كان الكلمة ، والكلمة كان عند الله ، وكان الكلمة الله ، ثم قال والكلمة صار جسدا وحل بيننا . وقد حكاه القرآن وأثبته فدل على أنه من الكلمات الإنجيلية ، فمعنى ذلك أنه أثر كلمة الله . والكلمة هي التكوين ، وهو المعبر عنه في الاصطلاح بـ ( كن ) . فإطلاق الكلمة على التكوين مجاز ، وليس هو بكلمة ، ولكنه تعلق القدرة . ووصف عيسى بذلك لأنه لم يكن لتكوينه التأثير الظاهر المعروف في تكوين الأجنة ، فكان حدوثه بتعلق القدرة ، فيكون في كلمته في الآية مجازان : مجاز حذف ، ومجاز استعارة صار حقيقة عرفية .
ومعنى ألقاها إلى مريم أوصلها إلى مريم ، وروعي في الضمير تأنيث لفظ الكلمة ، وإلا فإن المراد منها عيسى ، أو أراد كلمة أمر التكوين . ووصف عيسى بأنه روح الله وصف وقع في الأناجيل . وقد أقره الله هنا ، فهو مما نزل حقا .
ومعنى عيسى روحا من الله أن روحه من الأرواح التي هي عناصر الحياة ، لكنها نسبت إلى الله لأنها وصلت إلى كون مريم بدون تكون في نطفة فبهذا امتاز عن بقية الأرواح . ووصف بأنه مبتدأ من جانب الله ، وقيل : لأن عيسى لما غلبت على نفسه الملكية وصف بأنه روح ، كأن حظوظ الحيوانية مجردة عنه . وقيل : الروح النفخة . والعرب تسمي النفس روحا والنفخ روحا . قال يذكر لرفيقه أن يوقد نارا بحطب : ذو الرمة
[ ص: 53 ]
فقلت له ارفعها إليك فأحيها بروحك واقتته لها قيتة قدرا
أي بنفخك .وتلقيب عيسى بالروح طفحت به عبارات الأناجيل . و ( من ) ابتدائية على التقادير .
فإن قلت : ما حكمة وقوع هذين الوصفين هنا على ما فيهما من شبهة ضلت بها النصارى ؟ وهلا وصف المسيح في جملة القصر بمثل ما وصف به محمد - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي فكان أصرح في بيان العبودية ، وأنفى للضلال ؟
قلت : الحكمة في ذلك أن هذين الوصفين وقعا في كلام الإنجيل ، أو في كلام الحواريين وصفا لعيسى عليه السلام ، وكانا مفهومين في لغة المخاطبين يومئذ ، فلما تغيرت أساليب اللغات ، وساء الفهم في إدراك الحقيقة والمجاز تسرب الضلال إلى النصارى في سوء وضعهما فأريد التنبيه على ذلك الخطأ في التأويل ، أي أن قصارى ما وقع لديكم من كلام الأناجيل هو وصف المسيح بكلمة الله وبروح الله ، وليس في شيء من ذلك ما يؤدي إلى اعتقاد أنه ابن الله وأنه إله .
وتصدير جملة القصر بأنه رسول الله ينادي على وصف العبودية إذ لا يرسل الإله إلها مثله ، ففيه كفاية من التنبيه على معنى الكلمة والروح .