تفريع على قوله ( ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا ) وما اتصل به من الاعتراض والتفريعات ، والمناسبة : أن قائل هذا الكلام كان في غرور مثل الغرور الذي كان فيه أصحابه . وهو غرور إحالة البعث .
والآية تشير إلى قصة مع خباب بن الأرت العاصي بن وائل السهمي . ففي الصحيح : أن خبابا كان يصنع السيوف في مكة . فعمل للعاصي بن وائل سيفا وكان ثمنه دينا على العاصي ، وكان خباب قد أسلم ، فجاء خباب يتقاضى دينه من العاصي فقال له العاصي بن [ ص: 159 ] وائل : لا أقضيكه حتى تكفر بمحمد ، فقال خباب وقد غضب : لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ثم يبعثك . قال العاصي : أومبعوث أنا بعد الموت ؟ قال : نعم . قال العاصي متهكما : إذا كان ذلك فسيكون لي مال وولد وعند ذلك أقضيك دينك فنزلت هذه الآية في ذلك . فالعاصي بن وائل هو المراد بالذي كفر بآياتنا .
والاستفهام في ( أفرأيت ) مستعمل في التعجيب من كفر هذا الكافر ، والرؤية مستعارة للعلم بقصته العجيبة .
نزلت القصة منزلة الشيء المشاهد بالبصر لأنه من أقوى طرق العلم . وعبر عنه بالموصول لما في الصلة من منشأ العجب ولاسيما قوله ( لأوتين مالا وولدا ) .
والمقصود من الاستفهام لفت الذهن إلى معرفة هذه القصة أو إلى تذكرها إن كان عالما بها .
والخطاب لكل من يصلح للخطاب فلم يرد به معين . ويجوز أن يكون خطابا للنبيء - صلى الله عليه وسلم - .
والآيات : القرآن ، أي كفر بما أنزل إليه من الآيات وكذب بها . ومن جملتها آيات البعث .
والولد : اسم جمع لولد المفرد ، وكذلك قرأه الجمهور ، وقرأ حمزة ، في هذه السورة في الألفاظ الأربعة - ( وولد ) - بضم الواو وسكون اللام - فهو جمع ولد ، كأسد وأسد . والكسائي
وجملة ( أطلع الغيب ) جواب لكلامه على طريقة الأسلوب الحكيم بحمل كلامه على ظاهر عبارته من الوعد بقضاء الدين من المال الذي سيجده حين يبعث ، فالاستفهام في قوله ( أطلع الغيب ) إنكاري وتعجيبي . [ ص: 160 ] و ( اطلع ) افتعل من طلع للمبالغة في حصول فعل الطلوع وهو الارتقاء ، ولذلك يقال لمكان الطلوع مطلع بالتخفيف ومطلع بالتشديد . ومن أجل هذا أطلق الاطلاع على الإشراف على الشيء ، لأن الذي يروم الإشراف على مكان محجوب عنه يرتقي إليه من علو ، فالأصل أن فعل اطلع قاصر غير محتاج إلى التعدية ، قال تعالى ( قال هل أنتم مطلعون فاطلع فرآه في سواء الجحيم ) ، فإذا ضمن اطلع معنى أشرف عدي بحرف الاستعلاء كقوله تعالى ( لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ) . وتقدم إجمالا في سورة الكهف .
فانتصب الغيب في هذه الآية على المفعولية لا على نزع الخافض كما توهمه بعض المفسرين .
قال في الكشاف : ولاختيار هذه الكلمة شأن ، يقول : أوقد بلغ من عظمة شأنه أن ارتقى إلى علم الغيب اهـ . فالغيب : هو ما غاب عن الأبصار . والمعنى : أأشرف على عالم الغيب فرأى مالا وولدا معدين له حين يأتي يوم القيامة أو فرأى ماله وولده صائرين معه في الآخرة لأنه لما قال " فسيكون لي مال وولد " عنى أن ماله وولده راجعان إليه يومئذ أم عهد الله إليه بأنه معطيه ذلك فأيقن بحصوله ، لأنه لا سبيل إلى معرفة ما أعد له يوم القيامة إلا أحد هذين إما مكاشفة ذلك ومشاهدته . وإما إخبار الله بأنه يعطيه إياه .
ومتعلق العهد محذوف يدل عليه السياق . تقديره : بأن يعطيه مالا وولدا .
وعند ظرف مكان ، وهو استعارة بالكناية بتشبيه الوعد بصحيفة مكتوب بها تعاهد وتعاقد بينه وبين الله موضوعة عند الله [ ص: 161 ] لأن الناس كانوا إذا أرادوا توثيق ما يتعاهدون عليه كتبوه في صحيفة ووضعوها في مكان حصين مشهور كما كتب المشركون صحيفة القطيعة بينهم وبين بني هاشم ووضعوها في الكعبة . وقال الحارث بن حلزة :
حذر الجور والتطاخي وهل ينقض ما في المهارق الأهواء
ولعل في تعقيبه بقوله ( سنكتب ما يقول ) إشارة إلى هذا المعنى بطريق مراعاة النظير . واختير هنا من أسمائه ( الرحمان ) . لأن استحضار مدلوله أجدر في وفائه بما عهد به من النعمة المزعومة لهذا الكافر ، ولأن في ذكر هذا الاسم توركا على المشركين الذين قالوا ( ( وما الرحمن ) ) .
و ( كلا ) حرف ردع وزجر عن مضمون كلام سابق من متكلم واحد ، أو من كلام يحكى عن متكلم آخر أو مسموع منه كقوله تعالى ( قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي ) . والأكثر أن تكون عقب آخر الكلام المبطل بها ، وقد تقدم على الكلام المبطل للاهتمام بالإبطال وتعجيله والتشويق إلى سماع الكلام الذي سيرد بعدها كما في قوله تعالى ( كلا والقمر والليل إذ أدبر والصبح إذا أسفر إنها لإحدى الكبر ) إلى أحد تأويلين . ولما فيها من معنى الإبطال كانت في معنى النفي ، فهي نقيض " إي " و " أجل " ونحوهما من أحرف الجواب بتقدير الكلام السابق .
والمعنى : لا يقع ما حكى عنه من زعمه ولا من غروره . والغالب أن تكون متبعة بكلام بعدها ، فلا يعهد في كلام العرب أن يقول قائل في رد كلام : كلا ، ويسكت . [ ص: 162 ] ولكونها حرف ردع أفادت معنى تاما يحسن السكوت عليه . فلذلك جاز الوقف عليها عند الجمهور . ومنع الوقف عليها بناء على أنها لابد أن تتبع بكلام ، وقال المبرد الفراء : مواقعها أربعة : موقع يحسن الوقف عليها والابتداء بها كما في هذه الآية .
موقع يحسن الوقف عليها ولا يحسن الابتداء بها كقوله ( فأخاف أن يقتلون قال كلا فاذهبا ) .
وموقع يحسن فيه الابتداء بها ولا يحسن الوقف عليها كقوله تعالى ( كلا إنها تذكرة ) .
موقع لا يحسن فيه شيء من الأمرين كقوله تعالى ( ثم كلا سوف تعلمون ) .
وكلام الفراء يبين أن الخلاف بين الجمهور وبين لفظي لأن الوقف أعم من السكوت التام . المبرد
وحرف التنفيس في قوله ( سنكتب ) لتحقيق أن ذلك واقع لا محالة كقوله تعالى ( قال سوف استغفر لكم ربي ) .
والمد في العذاب : الزيادة منه ، كقوله ( فليمدد له الرحمن مدا ) .
و ( ما يقول ) في الموضعين إيجاز ، لأنه لو حكي كلامه لطال . وهذا كقوله تعالى ( قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم ) . أي وبقربان تأكله النار . أي ما قاله من الإلحاد والتهكم بالإسلام . وما قاله من المال والولد ، أي سنكتب جزاءه ونهلكه فنرثه ما سماه من المال والولد ، أي نرث أعيان ما ذكر أسماءه ، إذ لا يعقل أن يورث عنه قوله وكلامه . ف ( ما يقول ) بدل اشتمال من ضمير النصب في نرثه ، إذ التقدير : ونرث ولده وماله .
[ ص: 163 ] والإرث : مستعمل مجازا في السلب والأخذ ، أو كناية عن لازمه وهو الهلاك . والمقصود : تذكيره بالموت ، أو تهديده بقرب هلاكه .
ومعنى إرث أولاده أنهم يصيرون مسلمين فيدخلون في حزب الله ، فإن العاصي ولد عمرا الصحابي الجليل وهشاما الصحابي الشهيد يوم أجنادين ، فهنا بشارة للنبيء - صلى الله عليه وسلم - ونكاية وكمدا للعاصي بن وائل .
والفرد : الذي ليس معه ما يصير به عددا ، إشارة إلى أنه يحشر كافرا وحده دون ولده ، ولا مال له . وفردا حال .