وافتتاح الجملة باسم الإشارة لما فيه من التنبيه على أن المشار إليهم جديرون لما بعد اسم الإشارة ; لأجل الأوصاف المذكورة قبل اسم الإشارة ، وهي كونهم آمنوا وعملوا الصالحات .
واللام في لهم جنات عدن لام الملك ، و ( من ) للابتداء ، جعلت جهة " تحتهم " منشأ لجري الأنهار ، وتقدم شبيه هذه الآية في قوله تعالى وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار في سورة " براءة " .
و عدن تقدم في قوله تعالى ومساكن طيبة في جنات عدن في سورة " براءة " .
و من تحتهم بمنزلة من تحتها ; لأن تحت جناتهم هو تحت لهم .
ووجه إيثار إضافة ( تحت ) إلى ضميرهم دون ضمير الجنات زيادة تقرير المعنى الذي أفادته لام الملك ، فاجتمع في هذا الخبر عدة مقررات لمضمونه ، وهي : التأكيد مرتين ، وذكر اسم الإشارة ، ولام الملك ، وجر اسم الجهة بـ ( من ) ، وإضافة اسم الجهة إلى ضميرهم ، والمقصود من ذلك : التعريض بإغاظة المشركين لتتقرر بشارة المؤمنين أتم تقرر [ ص: 312 ] وجملة يحلون في موضع الصفة لـ " جنات عدن " .
والتحلية : التزيين ، والحلية : الزينة .
وأسند الفعل إلى المجهول ، ; لأنهم يجدون أنفسهم محلين بتكوين الله تعالى .
والأساور : جمع سوار على غير قياس ، وقيل : جمع أسورة الذي هو جمع سوار ، فصيغة جمع الجمع للإشارة إلى اختلاف أشكال ما يحلون به منها ، فإن الحلية تكون مرصعة بأصناف اليواقيت .
و ( من ) في قوله من أساور مزيدة للتأكيد على رأي الأخفش ، وسيأتي وجهه في سورة الحج ، ويجوز أن تكون للابتداء ، وهو متعين عند الذين يمنعون زيادتها في الإثبات .
والسوار : حلي من ذهب أو فضة يحيط بموضع الذراع ، وهو اسم معرب عن الفارسية عند المحققين ، وهو في الفارسية ( دستوراه ) بهاء في آخره كما في كتاب الراغب ، وكتب بدون هاء في تاج العروس .
وأما قوله من ذهب فإن ( من ) فيه للبيان ، وفي الكلام اكتفاء ، أي من ذهب وفضة ، كما اكتفى في آية سورة الإنسان بذكر الفضة عن ذكر الذهب بقوله وحلوا أساور من فضة ، ولكل من المعدنين جماله الخاص .
واللباس : ستر البدن بثوب من قميص أو إزار أو رداء ، وجميع ذلك للوقاية من الحر والبرد وللتجمل .
والثياب : جمع ثوب ، وهو الشقة من النسيج .
واللون الأخضر أعدل الألوان ، وأنفعها عند البصر ، وكان من شعار الملوك ، قال النابغة :
يصونون أجسادا قديما نعيمها بخالصة الأردان خضر المناكب
[ ص: 313 ] والسندس : صنف من الثياب ، وهو الديباج الرقيق يلبس مباشرا للجلد ليقيه غلظ الإستبرق .والإستبرق : الديباج الغليظ المنسوج بخيوط الذهب ، يلبس فوق الثياب المباشرة للجلد .
وكلا اللفظين معرب ، فأما لفظ سندس فلا خلاف في أنه معرب ، وإنما اختلفوا في أصله ، فقال جماعة : أصله فارسي ، وقال المحققون : أصله هندي ، وهو في اللغة الهندية " سندون " بنون في آخره ، كان قوم من وجوه الهند وفدوا على الإسكندر يحملون هدية من هذا الديباج ، وأن الروم غيروا اسمه إلى سندوس ، والعرب نقلوه عنهم فقالوا سندس ; فيكون معربا عن الرومية ، وأصله الأصيل هندي .
وأما الإستبرق فهو معرب عن الفارسية ، وأصله في الفارسية ( إستبره ) أو ( إستبر ) بدون هاء أو ( إستقره ) أو ( إستفره ) ، وقال : هو سرياني عرب ، وأصله ( إستروه ) وقال ابن دريد ابن قتيبة : هو رومي عرب ، ولذلك فهمزته همزة قطع عند الجميع ، وذكره بعض علماء اللغة في باب الهمزة ، وهو الأصوب ، ويجمع على أبارق قياسا ، على أنهم صغروه على أبيرق ; فعاملوا السين والتاء معاملة الزوائد .
وفي الإتقان للسيوطي عن ابن النقيب : لو اجتمع فصحاء العالم وأرادوا أن يتركوا هذا اللفظ ويأتوا بلفظ يقوم مقامه في الفصاحة لعجزوا .
وذلك : أن الله تعالى إذا حث عباده على الطاعة بالوعد والوعيد ، والوعد بما يرغب فيه العقلاء ، وذلك منحصر في : الأماكن ، والمآكل ، والمشارب ، والملابس ، ونحوها مما تتحد فيه الطباع أو تختلف فيه ، وأرفع الملابس في الدنيا الحرير ، والحرير كلما كان ثوبه أثقل كان أرفع ، فإذا أريد ذكر هذا فالأحسن أن يذكر بلفظ واحد موضوع له صريح ، وذلك ليس إلا الإستبرق [ ص: 314 ] ولا يوجد في العربية لفظ واحد يدل على ما يدل عليه لفظ إستبرق ، هذه خلاصة كلامه على تطويل فيه .
و ( من ) في قوله من سندس للبيان .
وقدم ذكر الحلي على اللباس هنا ; لأن ذلك وقع صفة للجنات ابتداء ، وكانت مظاهر الحلي أبهج للجنات ، فقدم ذكر الحلي ، وأخر اللباس ; لأن اللباس أشد اتصالا بأصحاب الجنة لا بمظاهر الجنة ، وعكس ذلك في سورة الإنسان في قوله عاليهم ثياب سندس ; لأن الكلام هنالك جرى على صفات أصحاب الجنة ، وجملة متكئين فيها على الأرائك في موضع الحال من ضمير يلبسون .
والاتكاء : جلسة الراحة والترف ، وتقدم عند قوله تعالى وأعتدت لهن متكأ في سورة يوسف عليه السلام .
والأرائك : جمع أريكة ، وهي اسم لمجموع سرير وحجلة ، والحجلة : قبة من ثياب تكون في البيت تجلس فيها المرأة أو تنام فيها ، ولذلك يقال للنساء : ربات الحجال ، فإذا وضع فيها سرير للاتكاء أو الاضطجاع فهي أريكة ، ويجلس فيها الرجل وينام مع المرأة ، وذلك من شعار أهل الترف .
وجملة نعم الثواب استئناف مدح ، ومخصوص فعل المدح محذوف ; لدلالة ما تقدم عليه ، والتقدير : نعم الثواب الجنات الموصوفة .
وعطف عليه فعل إنشاء ثان وهو وحسنت مرتفقا ; لأن ( حسن ) و ( ساء ) مستعملان استعمال ( نعم ) و ( بئس ) فعملا عملهما ، ولذلك كان التقدير : وحسنت الجنات مرتفقا ، وهذا مقابل قوله في حكاية حال أهل النار وساءت مرتفقا .
والمرتفق : هنا مستعمل في معناه الحقيقي بخلاف مقابله المتقدم .