عود إلى بيان التبذير والشح ، فالجملة عطف على جملة ولا تبذر تبذيرا ، ولولا تخلل الفصل بينهما بقوله وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك الآية لكانت جملة ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك غير مقترنة بواو العطف ; لأن شأن البيان أن لا يعطف على المبين ، وأيضا على أن في عطفها اهتماما بها يجعلها مستقلة بالقصد لأنها مشتملة على زيادة على البيان بما فيها من النهي عن البخل المقابل للتبذير .
وقد أتت هذه الآية تعليما بمعرفة حقيقة من الحقائق الدقيقة فكانت من الحكمة ، وجاء نظمها على سبيل التمثيل فصيغت الحكمة في قالب البلاغة .
فأما الحكمة فإذا بينت أن المحمود في العطاء هو الوسط الواقع بين طرفي الإفراط والتفريط ، وهذه الأوساط المحامدة بين المذام من كل حقيقة لها طرفان ، وقد تقرر في حكمة الأخلاق أن لكل خلق طرفين ووسطا ، فالطرفان إفراط وتفريط ، وكلاهما مقر مفاسد للمصدر وللمورد ، وأن الوسط هو العدل ، فالإنفاق والبذل حقيقة أحد طرفيها الشح : وهو مفسدة للمحاويج ، ولصاحب المال إذ يجر إليه كراهية الناس إياه وكراهيته إياهم ، والطرف الآخر التبذير والإسراف ، وفيه مفاسد لذي المال وعشيرته ; لأنه يصرف ماله عن مستحقه إلى مصارف غير جديرة بالصرف ، والوسط هو وضع المال في مواضعه ، وهو الحد الذي عبر عنه في الآية بنفي حالين بين ( لا ولا ) .
وأما البلاغة فبتمثيل الشح والإمساك بغل اليد إلى العنق ، وهو تمثيل مبني على تخيل اليد مصدرا للبذل والعطاء ، وتخيل بسطها وغلها شحا ، [ ص: 85 ] وهو تخيل معروف لدى البلغاء والشعراء ، قال تعالى وقالت اليهود يد الله مغلولة ثم قال بل يداه مبسوطتان وقال الأعشى :
يداك يدا صدق فكف مفيدة وكف إذا ما ضن بالمال تنفق
ومن ثم قالوا : له يد على فلان ، أي نعمة وفضل ، فجاء التمثيل في الآية مبنيا على التصرف في ذلك المعنى بتمثيل الذي يشح بالمال بالذي غلت يده إلى عنقه ، أي شدت بالغل ، وهو القيد من السير يشد به الأسير ، فإذا غلت اليد إلى العنق تعذر التصرف بها فتعطل الانتفاع بها فصار مصدر البذل معطلا فيه ، وبضده مثل المسرف بباسط يده غاية البسط ونهايته ، وهو المفاد من قوله كل البسط أي البسط كله الذي لا بسط بعده ، وهو معنى النهاية ، وقد تقدم من هذا المعنى قوله تعالى وقالت اليهود يد الله مغلولة إلى قوله بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء في سورة العقود ، وهذا قالب البلاغة المصوغة في تلك الحكمة .وقوله فتقعد ملوما محسورا جواب لكلا النهيين على التوزيع بطريقة النشر المرتب ، فالملوم يرجع إلى النهي عن الشح ، والمحسور يرجع إلى النهي عن التبذير ، فإن الشحيح ملوم مذموم ، وقد قيل :
إن البخيل ملوم حيثما كانا
وقال زهير :ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله على قومه يستغن عنه ويذمم والمحسور : المنهوك القوى ، يقال : بعير حسير ، إذا أتعبه السير فلم تبق له قوة ، ومنه قوله تعالى ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير ، والمعنى : غير قادر على إقامة شئونك ، والخطاب لغير معين ، وقد مضى الكلام على تقعد آنفا .