الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              قلت : وأمره- صلى الله عليه وسلم- من لم يسق الهدي بفسخ الحج إلى العمرة ، رواه عنه خلائق من الصحابة .

                                                                                                                                                                                                                              وقد اختلف العلماء في ذلك . فقال مالك ، والشافعي ، كان ذلك من خصائص الصحابة ، ثم نسخ جواز الفسخ كغيرهم ، وتمسكوا بما رواه مسلم ، عن أبي ذر لم يكن فسخ الحج إلى العمرة إلا إلى أصحاب محمد- صلى الله عليه وسلم- .

                                                                                                                                                                                                                              وأما الإمام أحمد فرد ذلك وجوز الفسخ لغير الصحابة .

                                                                                                                                                                                                                              وهناك دعا للمحلقين بالمغفرة ثلاثا ، وللمقصرين مرة .

                                                                                                                                                                                                                              فأما نساؤه فأحللن وكن قارنات إلا عائشة فإنها لم تحل من أجل تعذر الحل عليها بحيضتها ، وفاطمة حلت ، لأنها لم يكن معها هدي ، وعلي لم يحل من أجل هديه ، وأمر من أهل بإهلال كإهلاله- صلى الله عليه وسلم- أن يقيم على إحرامه ، إن كان معه هدي ، وأن يحل من لم يكن معه هدي .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : ورواه الطبراني- برجال ثقات- والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                                                                                                              وسار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبل يوم التروية بيوم ، فقلنا غدا إن شاء الله تعالى بالخيف حيث استقسم المشركون ، ثم سار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والناس معه حتى نزل الأبطح شرقي مكة في قبة حمراء من أدم ضربت له هناك ، وهناك كما قال ابن كثير- قدم علي من اليمن ببدن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- محرشا لفاطمة فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «صدقت» ثلاثا «أنا أمرتها ، يا علي بم أهللت ؟ » ، قال : قلت : اللهم إني أهل بما أهل به رسولك قال : ومعي هدي قال : «فلا تحل» ، فكان جملة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي ساقه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من المدينة مائة بدنة ، وكان يصلي مدة مقامه هنا إلى يوم التروية بمنزله الذي هو نازل فيه بالمسلمين بظاهر مكة ، فأقام بظاهر مكة أربعة أيام يقصر الصلاة . الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : ولم يعد إلى الكعبة كما في الصحيح عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                              وفي حديث أبي جحيفة عند الإمام أحمد ، والشيخين ، أنه أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالأبطح وهو في قبة له حمراء فخرج بلال بفضل وضوئه فمن ناضح ومن نائل ، قال : فأذن بلال ، فكنت أتتبع فاه ها هنا وها هنا- يعني يمينا وشمالا- ثم خرج بلال بالعنزة بين يديه . [ ص: 468 ]

                                                                                                                                                                                                                              فخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعليه حلة حمراء ، فكأني أنظر إلى بريق ساقيه ، فصلى بنا الظهر والعصر ركعتين ركعتين تمر المرأة والكلب والحمار من وراء العنزة ، فقام الناس فجعلوا يأخذون بيده فيمسحون بها وجوههم ، قال : فأخذت يديه فوضعتها على وجهي ، فإذا هي أبرد من الثلج ، وأطيب ريحا من المسك ،
                                                                                                                                                                                                                              والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : قال ابن سعد : فلما كان قبل يوم التروية بيوم خطب بمكة بعد الظهر فلما كان يوم الخميس ضحى توجه بمن معه من المسلمين إلى منى فأحرم بالحج من كان أحل منهم في رحالهم ، ولم يدخلوا المسجد فأحرموا منه ، بل أحرموا ومكة خلف ظهورهم فلما وصل إلى منى نزل بها فصلى بها الظهر والعصر ، وبات بها ، وكانت ليلة الجمعة ، فلما طلعت الشمس ساروا منها إلى عرفة وأخذ على طريق ضب على يمين طريق الناس اليوم ، وكان من الصحابة الملبي والمكبر ، وهو يسمع ذلك ولا ينكر على هؤلاء ولا على هؤلاء .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : وفي حديث ابن عباس قال : غدا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة من منى ، فلما انبعثت به راحلته وعليها قطيفة قد اشتريت بأربعة دراهم ، قال : «اللهم اجعله حجا مبرورا ، لا رياء فيه ولا سمعة» رواه الطبراني بسند جيد .

                                                                                                                                                                                                                              وفي حديث جابر ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية ، فسار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى أتى نمرة ، فوجد القبة قد ضربت له هناك بأمره فنزل فيها ، حتى إذا زالت الشمس أمر بناقته القصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي من أرض عرفة .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن سعد : فوقف بالهضبات من عرفات وقال : «كل عرفة موقف إلا بطن عرنة» أي بالنون قال ابن تيمية وهو يعني بطن عرنة وادي من حدود عرفة .

                                                                                                                                                                                                                              فخطب الناس قبل الصلاة على راحلته خطبة عظيمة .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : وهو قائم في الركابين- كما عند أبي داود- عن العداء بن خالد- رضي الله تعالى عنه- .

                                                                                                                                                                                                                              ونص الخطبة بعد الحمد لله ، والثناء عليه ، «أيها الناس : إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم ، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ، وقد بلغت ، فمن كانت عنده أمانة فليردها لمن ائتمنه عليها ، ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي ، وإن أول دمائكم أضع ، وفي رواية : وإن أول [ ص: 469 ] دم أضع من دمائنا دم ربيعة ، وفي رواية : دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، وكان مسترضعا في بني سعد بن بكر فقتلته هذيل .

                                                                                                                                                                                                                              وعند ابن إسحاق ، والنسائي ، في بني ليث فقتلته هذيل ، فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية ، وإن كل ربا موضوع ، ولكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون قضى الله أنه لا ربا ، وإن أول ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب ، فإنه موضوع كله .

                                                                                                                                                                                                                              أما بعد أيها الناس الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه أبدا ولكنه إن يطمع فيما سوى ذلك فقد رضي بما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم ، أيها الناس إن النسيء زيادة في الكفر ، يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ، ويحرمونه عاما ، ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله ، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا ، وفي رواية «إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ، ثلاثة متوالية : ذي القعدة وذي الحجة والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» .

                                                                                                                                                                                                                              «أما بعد أيها الناس : اتقوا الله واستوصوا بالنساء خيرا ، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهم شيئا وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله» . وفي رواية «بكتاب الله ، ولكم عليهن حق ، ولهن عليكم حق ، لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة ، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح ، فإن انتهين فلهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف .

                                                                                                                                                                                                                              فاعقلوا أيها الناس قولي- فإني قد بلغت- وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعدي أبدا- إن اعتصمتم به- أمرين ، وفي رواية أمرا بينا كتاب الله عز وجل وسنة نبيه- صلى الله عليه وسلم- .


                                                                                                                                                                                                                              أيها الناس اسمعوا قولي واعقلوه ، تعلمن أن كل مسلم أخ لمسلم ، وفي رواية : أخو المسلم وأن المسلمين إخوة ، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس ، فلا تظلمن أنفسكم واعلموا أن القلوب لا تغل على ثلاث : إخلاص العمل لله عز وجل ومناصحة أولي الأمر ، وعلى لزوم جماعة المسلمين ، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم ، ومن تكن الدنيا نيته يجعل الله فقره بين عينيه ويشتت عليه ضيعته ، ولا يأتيه منها إلا ما كتب له ، ومن تكن الآخرة نيته يجعل الله غناه في قلبه ، ويكفيه ضيعته وتأتيه الدنيا وهي راغمة ، فرحم الله امرأ سمع مقالتي حتى يبلغه غيره ، ورب حامل فقه وليس بفقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، [ ص: 470 ] أرقاءكم أرقاءكم أطعموهم مما تأكلون ، واكسوهم مما تلبسون ، فإن جاء بذنب لا تريدون أن تغفروه فبيعوا عباد الله ، ولا تعذبوهم ، أوصيكم بالجار- حتى أكثر- فقلنا إنه سيورثه .

                                                                                                                                                                                                                              أيها الناس : إن الله قد أدى لكل ذي حق حقه ، وإنه لا يجوز وصية لوارث ، والولد للفراش ، وللعاهر الحجر ، ومن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه ، فعليه لعنة الله ، والملائكة ، والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ، العارية مؤداة ، والنحلة مردودة ، والدين مقضي والزعيم غارم .

                                                                                                                                                                                                                              أما بعد : فإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون من ها هنا عند غروب الشمس حتى تكون الشمس على رءوس الجبال مثل عمائم الرجال على رءوسها . هدينا مخالف هديهم ، وكانوا يدفعون من المشعر الحرام عند طلوع الشمس على رءوس الجبال مثل عمائم الرجال على رءوسها . ويقولون : أشرق ثبير كيما نغير فأخر الله هذه وقدم هذه ، يعني : قدم المزدلفة قبل طلوع الشمس ، وأخر عرفة إلى أن تغيب الشمس ، وإنا لا ندفع من عرفة حتى تغيب الشمس ، وندفع من المزدلفة حتى تطلع الشمس ، وهدينا مخالف لهدي الأوثان والشرك» .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : وفي حديث المسور بن مخرمة- رضي الله تعالى عنه- قال : خطبنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعرفات فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : «أما بعد : فإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون من هذا الموضع إذا كانت الشمس على رءوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوهها ، وإنا ندفع بعد أن تغيب وكانوا يدفعون من المشعر الحرام إذا كانت الشمس منبسطة» ، رواه الطبراني برجال الصحيح .

                                                                                                                                                                                                                              «وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون ؟ » قالوا : نشهد أنك بلغت ، وأديت ، ونصحت ، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها على الناس «اللهم اشهد ، اللهم اشهد ، اللهم اشهد» . ثلاث مرات .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : روى البيهقي ، عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- «أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خطب بعرفات ، فلما قال : «لبيك اللهم لبيك ، قال إنما الخير خير الآخرة» .

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو محمد : وأرسلت إليه أم الفضل بنت الحارث الهلالية وهي أم عبد الله بن عباس بقدح لبن فشربه أمام الناس ووهماه في ذلك وقال : «إنما كان ذلك بعد ذلك حين وقف بعرفة كما سيأتي» . [ ص: 471 ]

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن إسحاق عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال : كان الرجل الذي يصرخ في الناس (تحت لبة ناقة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ) بقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو بعرفة : ربيعة بن أمية بن خلف الجمحي قال : يقول له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- (اصرخ . وكان صيتا ) قل أيها الناس إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول : هل تدرون أي شهر هذا ؟ فيقول لهم وفي رواية فيصرخ فيقولون نعم الشهر الحرام ، فيقول قل لهم إني وفي رواية : فإن الله قد حرم .

                                                                                                                                                                                                                              «فلما أتمها أمر بلالا فأذن ثم أقام الصلاة فصلى الظهر ، ركعتين أسر فيهما بالقراءة وكان يوم جمعة ، فلما فرغ من صلاته ركب حتى أتى الموقف ، فوقف في ذيل الجبل عند الصخرات واستقبل القبلة» .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : في حديث جابر ، وجعل بطن ناقته القصواء وهو عليها إلى الصخرات وجعل جبل المشاة بين يديه .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية