الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              وأمر الناس أن يرتفعوا عن بطن عرنة- بالنون- ووقف- صلى الله عليه وسلم- من لدن الزوال إلى أن غربت الشمس وهو يدعو الله تبارك وتعالى ويبتهل ويتضرع إليه رافعا يديه إلى صدره كاستطعام المسكين وأخبرهم أن خير الدعاء يوم عرفة .

                                                                                                                                                                                                                              ومما حفظ من دعائه- صلى الله عليه وسلم- هناك : «اللهم لك الحمد كالذي نقول ، وخيرا مما نقول ، اللهم لك صلاتي ، ونسكي ، ومحياي ، ومماتي ، وإليك مآبي ، ولك تراثي ، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ، ووسوسة الصدر ، وشتات الأمر اللهم إني أعوذ بك من شر ما يجيء به الريح ، ومن شر ما يلج في الليل ، وشر ما يلج في النهار ، وشر بوائق الدهر .

                                                                                                                                                                                                                              اللهم إنك تسمع كلامي ، وترى مكاني ، وتعلم سري وعلانيتي ، لا يخفى عليك شيء من أمري ، أنا البائس الفقير ، المستغيث المستجير ، الوجل المشفق المقر المعترف بذنبه ، أسألك مسألة المسكين ، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل ، وأدعوك دعاء الخائف الضرير ، من خضعت لك رقبته ، وفاضت لك عبرته وذل جسده ، ورغم أنفه لك ، اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقيا ، وكن بي رءوفا رحيما يا خير المسئولين . ويا خير المعطين» .

                                                                                                                                                                                                                              «لا إله إلا أنت وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، بيده الخير ، وهو على كل شيء قدير ، اللهم اجعل في قلبي نورا ، وفي صدري نورا وفي سمعي نورا ، وفي بصري نورا ، اللهم اشرح لي صدري ، ويسر لي أمري ، وأعوذ بك من وسواس الصدر ، وشتات الأمر ، وفتنة القبر ، اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل وشر ما يلج في النهار ، وشر ما تهب به الرياح ، ومن شر بوائق الدهر» رواه البيهقي . [ ص: 472 ]

                                                                                                                                                                                                                              أنزل عليه هناك اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [المائدة - 3] .

                                                                                                                                                                                                                              وهناك سقط رجل من المسلمين عن راحلته وهو محرم فمات ، فأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يكفن في ثوبه ، ولا يمس بطيب ، وأن يغسل بماء وسدر ، ولا يغطى رأسه ولا وجهه وأخبر أنه يبعث يوم القيامة يلبي .

                                                                                                                                                                                                                              فلما غربت الشمس واستحكم غروبها بحيث ذهبت الصفرة أفاض من عرفة ، وأردف أسامة بن زيد خلفه ، وأفاض بالسكينة ، وضم إليه زمام ناقته القصواء حتى إن رأسها ليصيب طرف رجله ، وهو يقول : «أيها الناس عليكم السكينة ، فإن البر ليس بالإيضاع» ، أي ليس بالإسراع ، وأفاض من طريق المأزمين وكان دخل مكة من طريق ضب» .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : وفي حديث ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أفاض من عرفات وهو يقول :


                                                                                                                                                                                                                              «إليك تغدو قلفا وضينها مخالفا دين النصارى دينها»

                                                                                                                                                                                                                              رواه الطبراني وقال : المشهور في الرواية أنه من فعل ابن عمر أي : لا مرفوعا ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                                                                                                              ثم جعل يسير العنق وهو ضرب من السير ليس بالسريع ولا البطيء ، فإذا وجد فجوة- وهو المتسع- نص سيره أي رفعه فوق ذلك وكلما أتى ربوة من تلك الربى أرخى للناقة- وهي العضباء- زمامها قليلا حتى تصعد ، وكان يلبي في مسيره ذلك لا يقطع التلبية ، فلما كان في أثناء الطريق مال إلى الشعب وهو شعب الأذاخر عن يسار الطريق بين المأزمين- نزل- صلى الله عليه وسلم- فبال وتوضأ خفيفا ، فقال أسامة : الصلاة يا رسول الله : فقال : «الصلاة أمامك» ، ثم سار حتى أتى المزدلفة .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : نزل قريبا من النار التي على قزح فتوضأ وضوء الصلاة ، ثم أمر بالأذان فأذن المؤذن ، ثم أقام الصلاة فصلى المغرب قبل حط الرحال ، وتبريك الجمال ، فلما حطوا رحالهم أمر فأقيمت الصلاة ، ثم صلى العشاء الآخرة بإقامة بلا أذان ، ولم يصل بينهما شيئا ثم نام حتى أصبح ولم يحيي تلك الليلة ، وأذن في تلك الليلة ، قلت : عند السحر لمن استأذنه من أهل الضعف من الذرية والنساء ، ومنهن سودة وأم حبيبة أن يتقدموا إلى منى قبل حطمة الناس ، [ ص: 473 ] وذلك طلوع الفجر ، وكان ذلك عند غيبوبة القمر .

                                                                                                                                                                                                                              وأمرهم ألا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس ، ورمى من النساء أسماء بنت أبي بكر ، وأم سلمة قبل الفجر . قال في البداية فكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمر الغلمان بأن لا يرموا قبل طلوع الفجر ، وأذن للظعن في الرمي قبل طلوع الشمس لأنهن أثقل حالا ، وأبلغ في الستر .

                                                                                                                                                                                                                              وفي حديث ابن عباس- قدمنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أغيلمة بني عبد المطلب على نساء محمد يلطح أفخاذنا ويقول : «أبني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس» رواه أحمد

                                                                                                                                                                                                                              وجئت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ببقية نسائه حتى يدفعن معه حين يصبح .

                                                                                                                                                                                                                              فلما برق الفجر ، صلاها في أول الوقت خلافا لمن زعم أنه صلاها قبل الوقت بأذان وإقامة ، يوم النحر ، وهو يوم العيد ، وهو يوم الحج الأكبر ، وهو يوم الأذان ببراءة الله ورسوله من كل مشرك ، ثم ركب القصواء حتى أتى موقفه عند المشعر الحرام فوقف على قزح وقال : «كل المزدلفة موقفنا إلا بطن محسر» ، فاستقبل القبلة ، وأخذ في الدعاء والتضرع والتهليل ، والتكبير ، والذكر ، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا ، وذلك قبل طلوع الشمس .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : وكان أهل الجاهلية لا يدفعون حتى تطلع الشمس على ثبير ، ويقولون : أشرق ثبير كيما نغير . فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إن قريشا خالفت هدي إبراهيم ، فدفع طلوع الشمس .

                                                                                                                                                                                                                              وهنالك سأله عروة بن مضرس بن الطائي ، فقال : يا رسول الله : إني جئت من جبل طيئ أكللت راحلتي وأتعبت نفسي ، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه ، فهل لي من حج ؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «من شهد صلاتنا هذه ، فوقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا ، فقد أتم حجه وقضى تفثه» .

                                                                                                                                                                                                                              ثم سار بمزدلفة مردفا للفضل بن عباس ، وهو يلبي في مسيره ، وانطلق أسامة بن زيد على رجليه في سباق قريش ، وفي طريقه ذلك ، أمر الفضل بن عباس أن يلقط له حصى الجمار سبع حصيات ، ولم يكسرها من الجبل ، تلك الليلة كما يفعل من لا علم عنده ولا التقطها بالليل ، فالتقط له سبع حصيات من حصى الخذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول : «أمثال هؤلاء ، فارموا ، وإياكم والغلو في الدين ، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» ،

                                                                                                                                                                                                                              وفي طريقه تلك عرضت له امرأة من خثعم جميلة ، فسألته عن الحج عن أبيها- وكان شيخا كبيرا [ ص: 474 ] لا يستمسك على الراحلة- فأمرها أن تحج عنه ، وجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه ، فوضع يده على وجهه فصرفه إلى الشق الآخر لئلا تنظر إليه ولا ينظر إليها .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : في حديث جابر وكان الفضل رجلا حسن الشعر أبيض وسيما ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                                                                                                              فقال العباس لويت عنق ابن عمك ، فقال : «رأيت شابا وشابة ، فلم آمن الشيطان عليهما» .

                                                                                                                                                                                                                              وسأله آخر هناك عن أمه ، وقال : «إنها عجوز كبيرة ، وإن حملتها لم تستمسك وإن ربطتها خشيت أن أقتلها» ، قال : «أرأيت إن كان على أمك دين أكنت قاضيه ؟ » قال : نعم . قال «فحج عن أمك»

                                                                                                                                                                                                                              فلما أتى بطن محسر حرك ناقته وأسرع السير ، وهذه كانت عادته- صلى الله عليه وسلم- في المواضع التي نزل فيها بأس الله بأعدائه ، فإن هنالك أصاب الفيل ما قص الله علينا . ولذلك سمي الوادي وادي محسر ، لأن الفيل حسر فيه أي أعيا وانقطع عن الذهاب .

                                                                                                                                                                                                                              ومحسر برزخ بين منى ومزدلفة لا من هذه ولا من هذه ، وعرنة برزخ بين عرفة والمشعر الحرام ، فبين كل مشعرين برزخ ليس منها ، فمنى من الحرم ، وهي مشعر ، ومحسر من الحرم وليس بمشعر ، ومزدلفة حرم ومشعر ، وعرنة ليست بمشعر ، وهي من الحل وعرفة حل ومشعر .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : كذا في أكثر الروايات .

                                                                                                                                                                                                                              وفي حديث أم جندب ، عند أبي داود وغيره ، أنه كان راكبا يظله الفضل بن العباس وهو غريب مخالف للروايات الصحيحة .

                                                                                                                                                                                                                              وسلك الطريق الوسطى بين الطريقين ، وهي التي تخرج على الجمرة الكبرى ، حتى أتى منى .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : قال ابن سعد : ولم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة .

                                                                                                                                                                                                                              «فأتى جمرة العقبة فوقف في أسفل الوادي وجعل البيت عن يساره ، ومنى عن يمينه ، واستقبل الجمرة ، وهو على راحلته فرماها راكبا بعد طلوع الشمس ، واحدة بعد واحدة ، يكبر مع كل حصاة ، وحينئذ قطع التلبية وكان في مسيره ذلك يلبي حتى شرع في الرمي ، وبلال وأسامة معه ، أحدهما آخذ بخطام ناقته ، والآخر يظله بثوب من الحر» .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : الذي كان يظله بلال كما في حديث أبي أمامة ، عن بعض الصحابة رواه ابن سعد . [ ص: 475 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية