الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              ذكر حديث كعب بن مالك وأصحابه - رضي الله عنهم -

                                                                                                                                                                                                                              روى ابن إسحاق ، وعبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، والإمام أحمد ، والشيخان عن كعب بن مالك - رضي الله عنه - قال : لم أتخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك ، غير أني كنت تخلفت عن غزوة بدر ولم يعاتب الله أحدا تخلف عنها ، إنما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ، ولقد شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام ، وما أحب أن لي بها مشهد بدر ، وإن كانت بدر أذكر - وفي رواية : وإن كانت بدر أكثر ذكرا في الناس منها . كان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة ، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة ، ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد غزوة إلا ورى بغيرها ، وكان يقول : "الحرب خدعة" حتى كانت تلك الغزوة ، غزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حر شديد ، واستقبل سفرا بعيدا ومفازا وعددا كثيرا ، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم - وفي لفظ أهبة عدوهم - فأخبرهم بوجهه الذي يريد ، والمسلمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرون - وعند مسلم يزيدون على عشرة آلاف .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الحاكم في الإكليل عن معاذ - رضي الله عنه - قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوة تبوك زيادة على ثلاثين ألفا ، وقال أبو زرعة الرازي : لا يجمعهم كتاب حافظ - قال الزهري : يريد الديوان ، قال كعب : فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                              وغزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الغزوة حين طابت الثمار والغلال في قيظ شديد ، في حال الخريف والناس خارفون في نخيلهم ، وتجهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتجهز المسلمون معه ، فخرج في يوم الخميس وكان يحب إذا خرج في سفر جهاد أو غيره أن يخرج يوم الخميس ، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئا ، فأقول في نفسي : أنا قادر عليه ، وفي رواية : وأنا أقدر شيئا في نفسي على الجهاد وخفة الجهاد ، وأنا في ذلك أصبو إلى الظلال [ ص: 474 ] والثمار ، ولم يزل يتمادى بي الحاذ حتى اشتد بالناس الجد ، فأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غاديا والمسلمون معه يوم الخميس ، ولم أقض من جهازي شيئا ، فقلت : أتجهز بعده بيوم أو يومين ، ثم ألحقهم ، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئا . فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أمعن القوم وأسرعوا وتفارط الغزو ، وهممت أن أرتحل فأدركهم - وليتني فعلت - ! ! فلم يقدر لي ذلك ، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه بالنفاق ، أو رجلا ممن عذر الله - تعالى - من الضعفاء - وعند عبد الرزاق : وكان جميع من تخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضعة وثمانين رجلا - ولم يذكرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ تبوك . فقال وهو جالس في القوم بتبوك : "ما فعل كعب بن مالك ؟ " فقال رجل من بني سلمة ، وفي رواية من قومي - قال محمد بن عمر : هو عبد الله بن أنيس السلمي - بفتح اللام - لا الجهني : يا رسول الله حبسه برداه ونظره في عطفيه . فقال معاذ بن جبل - قال محمد بن عمر : وهو أثبت ، ويقال : أبو قتادة : بئس ما قلت ! والله يا رسول الله ما علمت عليه إلا خيرا . فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                                              قال كعب بن مالك : فلما بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توجه قافلا حضرني همي ، وطفقت أعد عذرا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهيئ الكلام ، وأقول : بماذا أخرج من سخطه - صلى الله عليه وسلم - غدا ، واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي ، فلما قيل إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أطل قادما زاح عني الباطل ، وعرفت أني لم أخرج منه أبدا بشيء فيه كذب ، فأجمعت صدقه ، وعرفت أنه لا ينجيني منه إلا الصدق ، وأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قادما ،

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن سعد : في رمضان ، قال كعب : وكان إذا قدم من سفر لا يقدم إلا في الضحى فيبدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين ثم يدخل على فاطمة ثم على أزواجه ، فبدأ بالمسجد فركعهما ، ثم جلس للناس ، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ، ويحلفون له ، وكانوا بضعة وثمانين رجلا ، فقبل منهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى ، فجئته ، فلما سلمت عليه ، تبسم تبسم المغضب ، فقال : "تعال" فجئت أمشي حتى جلست بين يديه - وعند ابن عائذ : فأعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا نبي الله ، لم تعرض عني ؟

                                                                                                                                                                                                                              فو الله ما نافقت ، ولا ارتبت ، ولا بدلت - قال كعب : فقال لي : "ما خلفك ؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك ؟ " فقلت : بلى إني والله يا رسول الله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر ، ولقد أعطيت جدلا ، ولكني - والله - لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله تعالى أن يسخطك علي ، ولئن حدثتك اليوم حديث صدق تجد علي فيه ، إني لأرجو فيه عفو الله عني ، لا والله ما كان لي من عذر ، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أما هذا فقد صدق ، فقم [ ص: 475 ]

                                                                                                                                                                                                                              حتى يقضي الله تعالى فيك ما يشاء" فقمت ، فمضيت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني ،

                                                                                                                                                                                                                              فقالوا : ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما اعتذر به إليه المخلفون ، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لك . فو الله ما زالوا يؤنبونني ، حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي ، فقلت : ما كنت لأجمع أمرين : أتخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكذبه ، ثم قلت لهم : هل لقي هذا معي أحد ؟ قالوا :

                                                                                                                                                                                                                              نعم رجلان قالا مثل ما قلت ، فقيل لهما مثل ما قيل لك ، فقلت : من هما ؟ قالوا : مرارة بن الربيع العمري ، وهلال بن أمية الواقفي .

                                                                                                                                                                                                                              وعند ابن أبي حاتم من مرسل الحسن أن سبب تخلف الأول أنه كان له حائط حين زها ، فقال في نفسه : قد غزوت قبلها فلو أقمت عامي هذا ؟ ! فلما تذكر ذنبه قال : اللهم أشهدك أني قد تصدقت به في سبيلك . وأن الثاني كان له أهل تفرقوا ثم اجتمعوا فقال : لو أقمت هذا العام عندهم . فلما تذكر قال : اللهم لك علي أن لا أرجع إلى أهلي ولا مالي .

                                                                                                                                                                                                                              قال كعب : فذكروا رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة ، فمضيت حين ذكروهما لي . ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه ، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا - وعند ابن أبي شيبة . فطفقنا نغدو في الناس لا يكلمنا أحد ، ولا يسلم علينا أحد ، ولا يرد علينا سلاما ، وعند عبد الرزاق وتنكر لنا الناس حتى ما هم بالذي نعرف وتنكرت لنا الحيطان حتى ما هي بالتي نعرف انتهى . ما من شيء أهم إلي من أن أموت فلا يصلي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو يموت فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد ولا يصلى على - حتى تنكرت في نفسي الأرض حتى ما هي التي أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة ، فأما صاحباي فاستكانا ، وقعدا في بيتهما يبكيان ، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم ، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين ، وأطوف الأسواق فلا يكلمني أحد ، ولا يرد علي سلاما وأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في مجلسه بعد الصلاة فأسلم عليه وأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ؟ ثم أصلي قريبا منه فأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل علي ، فإذا التفت نحوه أعرض عني . حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة ، وهو ابن عمي : أي أنه من بني سلمة وليس هو ابن عمه أخو أبيه الأقرب ، قال كعب : وهو أحب الناس إلي ، فسلمت عليه فو الله ما رد علي ، فقلت له : يا أبا قتادة ، أنشدك بالله ، هل تعلمني أحب الله ورسوله ؟ فسكت ، فعدت له فنشدته فسكت [فعدت له فنشدته] فلم يكلمني ، حتى إذا كان في الثالثة أو الرابعة قال : الله ورسوله أعلم . ففاضت عيناي ، وتوليت حتى تسورت الجدار ، قال فبينما أنا أمشي في سوق المدينة إذا بنبطي من [ ص: 476 ]

                                                                                                                                                                                                                              أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول : من يدل على كعب بن مالك ؟ فطفق الناس يشيرون له ، حتى إذا جاءني دفع إلي كتابا من ملك غسان ، وعند ابن أبي شيبة : من بعض من بالشام كتب إلي كتابا في سرقة حرير فإذا فيه : أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك فأقصاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة ، فإن تك متحولا فالحق بنا نواسيك . فقلت : لما قرأتها : وهذا أيضا من البلاء ، قد طمع في أهل الكفر ، فتيممت بها التنور فسجرته بها .

                                                                                                                                                                                                                              وعند ابن عائذ : أنه شكا قدره إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : ما زال إعراضك عني حتى رغب في أهل الشرك ، قال كعب : حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتيني . قال محمد بن عمر : وهو خزيمة بن ثابت ، وهو الرسول إلى مرارة وهلاك بذلك . قال كعب : فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تعتزل امرأتك : أي عمرة بنت حمير بن صخر بن أمية الأنصارية أو خيرة - بفتح الخاء المعجمة فالتحتانية - فقلت : أطلقها أو ماذا أفعل ؟ قال : لا بل اعتزلها ولا تقربها ، وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك . فقلت لامرأتي الحقي بأهلك ، فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر . قال كعب : وجاءت امرأة هلال بن أمية ، أي خولة بنت عاصم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله ، إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم - وعند ابن أبي شيبة : إنه شيخ قد ضعف بصره - انتهى . فهل تكره أن أخدمه ؟ قال :

                                                                                                                                                                                                                              "لا ، ولكن لا يقربك" قالت : إنه والله ما به حركة إلى شيء ! ! والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا . قال كعب : فقال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في امرأتك كما أذن لهلال بن أمية أن تخدمه ، فقلت : والله لا أستأذن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما يدريني ما يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استأذنته فيها ، وأنا رجل شاب ، فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كلامنا .

                                                                                                                                                                                                                              وعند عبد الرزاق : وكانت توبتنا نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلث الليل - فقالت أم سلمة :

                                                                                                                                                                                                                              يا نبي الله ألا نبشر كعب بن مالك ؟ قال : إذا يحطمكم الناس ويمنعونكم النوم سائر الليلة

                                                                                                                                                                                                                              قال :

                                                                                                                                                                                                                              وكانت أم سلمة تجيئه في ثاني عشرة بأمري فلما صليت الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا ، فبينا أنا جالس على الحال الذي ذكره الله تعالى قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت ، سمعت صوتا صارخا أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته : يا كعب بن مالك ، أبشر - وعند محمد بن عمر - رحمه الله تعالى - أن الذي أوفى على سلع أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - فصاح : قد تاب الله - تعالى - على كعب ، يا كعب :

                                                                                                                                                                                                                              أبشر . وعند ابن عقبة أن رجلين سعيا يريدان كعبا يبشرانه ، فسبق أحدهما ، فارتقى المسبوق على سلع فصاح يا كعب ، أبشر بتوبة الله - تعالى - وقد أنزل الله - تعالى - عز وجل فيكم القرآن ، وزعموا أن اللذين سعيا أبو بكر وعمر ، قال كعب : فخررت ساجدا أبكي فرحا بالتوبة . [ ص: 477 ]

                                                                                                                                                                                                                              وعرفت أن قد جاء فرج ، وآذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتوبة الله - تعالى - علينا حين صلى صلاة الفجر ، فذهب الناس يبشروننا ، وذهب قبل صاحبي مبشرون ، وركض إلي رجل على فرس - وعند محمد بن عمر : هو الزبير بن العوام - رضي الله عنه - قال كعب : وسعى ساع من أسلم حتى أوفى على الجبل وعند محمد بن عمر : أنه حمزة بن عمرو الأسلمي : قال كعب : وكان الصوت أسرع من الفرس ، فلما جاءني الذي سمعت صوته ، وهو حمزة الأسلمي يبشرني ، نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشراه ، والله ما أملك غيرهما يومئذ . واستعرت ثوبين من أبي قتادة - كما عند محمد بن عمر - فلبستهما . قال : وكان الذي بشر هلال بن أمية بتوبته سعيد بن زيد ، فما ظننت أنه يرفع رأسه حتى تخرج نفسه ، أي من الجهد ، فقد كان امتنع عن الطعام حتى كان يواصل الأيام صياما لا يفتر عن البكاء ، وكان الذي بشر مرارة بن الربيع بتوبته سلكان بن سلامة أو سلامة بن وقش .

                                                                                                                                                                                                                              قال كعب : وانطلقت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بالتوبة ، يقولون : لتهنك توبة الله - تعالى - عليك . قال كعب : حتى دخلت المسجد ، فإذا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس حوله الناس ، فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني .

                                                                                                                                                                                                                              والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة .

                                                                                                                                                                                                                              قال كعب : فلما سلمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يبرق وجهه من السرور [أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك] فقلت : يا رسول الله ، أمن عندك أم من عند الله ؟ قال : "لا بل من عند الله ، إنكم صدقتم الله فصدقكم الله" وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر ، وكنا نعرف ذلك : منه ، فلما جلست بين يديه قلت : يا رسول الله ، إن من توبتي أن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله - تعالى - وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك" قلت : نصفه ؟ قال "لا" قلت : ثلثه ؟ قال : "نعم" قلت : فإني أمسك سهمي الذي بخيبر ، وقلت : يا رسول الله إنما نجاني الله - تعالى - بالصدق وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت ، فو الله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله - تعالى - في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن مما أبلاني ، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومي هذا كذبا ، وإني لأرجو أن يحفظني الله - تعالى - فيما بقيت ، فأنزل الله - تبارك وتعالى - على رسوله - صلى الله عليه وسلم - : لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار إلى قوله : وكونوا مع الصادقين [التوبة 117 ، 119] فو الله ما أنعم الله علي من نعمة - بعد أن هداني للإسلام - أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا ، فإن الله تعالى قال في الذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد ، فقال تبارك وتعالى : [ ص: 478 ] سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم إلى قوله : فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين

                                                                                                                                                                                                                              [التوبة 95 ، 96] .

                                                                                                                                                                                                                              قال كعب : وكنا قد تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم ، وأرجأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا حتى قضى الله سبحانه وتعالى فيه بذلك قال الله تعالى : وعلى الثلاثة الذين خلفوا [التوبة 118] وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو وإنما تحليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه ، فقبل منه .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن عساكر عن كعب بن مالك - رضي الله عنه - قال : لما نزلت توبتي قبلت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية