الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              ذكر بعض آيات وقعت في رجوع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تبوك إلى المدينة

                                                                                                                                                                                                                              روى محمد بن عمر ، وأبو نعيم عن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال : بينا نحن نسير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجيش ليلا وهو قافل وأنا معه إذ خفق خفقة - وهو على راحلته فمال على شقه فدنوت منه فدعمته فانتبه ، فقال : "من هذا ؟ " فقلت : أبو قتادة يا رسول الله ، خفت أن تسقط فدعمتك ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "حفظك الله كما حفظت رسوله" ثم سار غير كثير ثم فعل مثل ذلك هذا فدعمته فانتبه فقال : يا أبا قتادة ، هل لك في التعريس ؟ " فقلت : ما شئت يا رسول الله ، فقال : "انظر من خلفك" فنظرت فإذا رجلان أو ثلاثة ، فقال "ادعهم" فقلت : أجيبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءوا فعرسنا - ونحن خمسة - برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعي إداوة فيها ماء وركوة لي أشرب فيها ، فنمنا فما انتبهنا إلا بحر الشمس ، فقلنا : إنا لله فاتنا الصبح ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لنغيظن الشيطان كما غاظنا" فتوضأ من ماء الإداوة ففضل فضلة فقال : "يا أبا قتادة احتفظ بما في الإداوة والركوة ، فإن لهما شأنا" وصلى - صلى الله عليه وسلم - بنا الفجر بعد طلوع الشمس ، فقرأ بالمائدة ، فلما انصرف من الصلاة قال : أما إنهم لو أطاعوا أبا بكر وعمر لرشدوا وذلك أن أبا بكر وعمر أرادا أن ينزلا بالجيش على الماء فأبوا ذلك عليهما ، فنزلوا على غير ماء بفلاة من الأرض ، فركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلحق الجيش عند زوال الشمس ونحن معه . وقد كادت أعناق الخيل والرجال والركاب تقطع عطشا ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالركوة فأفرغ ما في الإداوة فيها . ووضع أصابعه عليها فنبع الماء من بين أصابعه ، وأقبل الناس فاستقوا وفاض الماء حتى رووا ، ورووا خيلهم ، وركابهم ، وكان في العسكر اثنا عشر ألف بعير ، والناس ثلاثون ألفا ، والخيل اثنا عشر ألف فرس ، فذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "احتفظ بالركوة والإداوة" .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن إسحاق ، ومحمد بن عمر : قالوا : وأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قافلا حتى إذا كان بين تبوك وواد يقال له : وادي الناقة - وقال ابن إسحاق : يقال له وادي المشقق - وكان فيه وشل يخرج منه في أسفله قدر ما يروي الراكبين أو الثلاثة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من سبقنا إلى ذلك الوشل فلا يستقين منه شيئا حتى نأتيه" فسبقه إليه أربعة من المنافقين : معتب بن قشير ، والحارث بن يزيد الطائي حليف في بني عمرو بن عوف ، ووديعة بن ثابت ، وزيد بن اللصيت ، فلما أتاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف عليه فلم ير فيه شيئا . فقال "من سبقنا إلى هذا الماء ؟ " فقيل يا رسول الله فلان وفلان ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ألم أنهكم ؟ " فلعنهم ودعا [ ص: 465 ]

                                                                                                                                                                                                                              عليهم ، ثم نزل ووضع يده تحت الوشل ، ثم مسحه بإصبعيه حتى اجتمع منه في كفه ماء قليل ، ثم نضحه به ، ثم مسحه بيده ، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو ، فانخرق منه الماء - قال معاذ بن جبل : والذي نفسي بيده لقد سمعت له من شدة انخراقه مثل الصواعق - فشرب الناس ما شاءوا ، واستقوا ما شاءوا ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للناس "لئن بقيتم . أو من بقي منكم" - لتسمعن بهذا الوادي وهو أخصب مما بين يديه ومما خلفه" قال سلمة بن سلامة بن وقش :

                                                                                                                                                                                                                              قلت لوديعة بن ثابت : ويلك أبعد ما ترى شيء ؟ أما تعتبر ؟ قال : قد كان يفعل بهذا مثل هذا قبل هذا ، ثم سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                                              وروى محمد بن عمر ، وأبو نعيم عن جماعة من أهل المغازي قال : بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير منحدرا إلى المدينة ، وهو في قيظ شديد ، عطش العسكر بعد المرتين الأوليين عطشا شديدا حتى لا يوجد للشفة ماء قليل ولا كثير ، فشكوا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسل أسيد بن الحضير في يوم صائف ، وهو متلثم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "عسى أن تجد لنا ماء" فخرج أسيد وهو فيما بين تبوك والحجر في كل وجه فيجد راوية من ماء مع امرأة من بلي ، فكلمها أسيد ، وأخبرها خبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : فهذا الماء ، فانطلق به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد وصفت له الماء وبينه وبين الطريق هنيهة ، فلما جاء أسيد بالماء دعا فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعا فيه بالبركة ، ثم قال : "هلم أسقيتكم" فلم يبق معهم سقاء إلا ملئوه ، ثم دعا بركابهم وخيولهم ، فسقوها حتى نهلت ، ويقال إنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بما جاء به أسيد فصبه في قعب عظيم من عساس أهل البادية فأدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه يده ، وغسل وجهه ويديه ورجليه ، ثم صلى ركعتين ، ثم رفع يديه مدا ، ثم انصرف وإن القعب ليفور ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للناس "ردوا" فاتسع الماء وانبسط الناس حتى يصنف عليه المائة والمائتان فارتووا ، وإن القعب ليجيش بالرواء ، ثم راح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبردا مترويا .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الطبراني بسند صححه الشيخ وحسنه الحافظ - خلافا لمن ضعفه - عن فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزا غزوة تبوك فجهد الظهر جهدا شديدا فشكوا ذلك إليه ، ورآهم يزجون ظهرهم ، فوقف في مضيق والناس يمرون فيه ، فنفخ فيها وقال : "اللهم احمل عليها في سبيلك فإنك تحمل على القوي والضعيف والرطب واليابس في البر والبحر" فاستمرت فما دخلنا المدينة إلا وهي تنازعنا أزمتها . [ ص: 466 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية