الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان مراتب الناس في طول الأمل وقصره .

اعلم أن الناس في ذلك يتفاوتون ; فمنهم من يأمل البقاء ويشتهي ، ذلك أبدا ، قال الله تعالى : يود أحدهم لو يعمر ألف سنة . ومنهم من يأمل البقاء إلى الهرم وهو أقصى العمر الذي شاهده ورآه ، وهو الذي يحب الدنيا حبا شديدا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الشيخ شاب في حب طلب الدنيا ، وإن التفت ترقوتاه من الكبر إلا الذين اتقوا وقليل ما هم " ومنهم من يأمل إلى سنة ، فلا يشتغل بتدبير ما وراءها ، فلا يقدر لنفسه وجودا في عام قابل ، ولكن هذا يستعد في الصيف للشتاء ، وفي الشتاء للصيف فإذا ، جمع ما يكفيه لسنته اشتغل بالعبادة . ومنهم من يأمل مدة الصيف أو الشتاء فلا يدخر في الصيف ثياب الشتاء ، ولا في الشتاء ثياب الصيف .

ومنهم من يرجع أمله إلى يوم وليلة فلا يستعد إلا لنهاره ، وأما للغد فلا .

قال عيسى عليه السلام : " لا تهتموا برزق غد ، فإن يكن غدا من آجالكم فستأتي فيه أرزاقكم مع آجالكم ، وإن لم يكن من آجالكم فلا تهتموا لآجال غيركم .

" ومنهم من لا يجاوز أمله ساعة ، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم : يا عبد الله إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء ، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح ومنهم من لا يقدر البقاء أيضا ساعة ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتيمم مع القدرة على الماء قبل مضي ساعة ، ويقول لعلي لا : " أبلغه " ومنهم من يكون الموت نصب عينيه كأنه واقع به فهو ينتظره . وهذا الإنسان هو الذي يصلي صلاة مودع وفيه ورد ما نقل عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه لما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حقيقة إيمانه فقال : ما خطوت خطوة إلا ظننت أني لا أتبعها أخرى وكما نقل عن الأسود وهو حبشي أنه كان يصلي ليلا ، ويلتفت يمينا وشمالا ، فقال له قائل ما هذا قال أنظر : ملك الموت من أي جهة يأتيني .

فهذه مراتب الناس ، ولكل درجات عند الله ، وليس من أمله مقصور على شهر ، كمن أمله شهر ويوم ، بل بينهما تفاوت في الدرجة عند الله فإن ، الله لا يظلم مثقال ذرة ، ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره . ثم يظهر أثر قصر الأمل في المبادرة إلى العمل ، وكل إنسان يدعي أنه قصير الأمل وهو كاذب إنما يظهر ذلك بأعماله ، فإنه يعتني بأسباب ربما لا يحتاج إليها في سنة ، فيدل ذلك على طول أمله .

وإنما علامة التوفيق أن يكون الموت نصب العين لا يغفل عنه ساعة فليستعد ، للموت الذي يرد عليه في الوقت ، فإن عاش إلى المساء شكر الله تعالى على طاعته وفرح بأنه ، لم يضيع نهاره بل استوفى منه حظه ، وادخره لنفسه ، ثم يستأنف مثله إلى الصباح ، وهكذا إذا أصبح .

ولا يتيسر هذا إلا لمن فرغ القلب عن الغد ، وما يكون فيه .

فمثل هذا إذا مات سعد وغنم ، وإن عاش سر بحسن الاستعداد ، ولذة المناجاة ، فالموت له سعادة ، والحياة له مزيد ، فليكن الموت على بالك يا مسكين ، فإن السير حاث بك وأنت غافل عن نفسك ، ولعلك قد قاربت المنزل ، وقطعت المسافة ، ولا تكون كذلك إلا بمبادرة العمل اغتناما لكل نفس أمهلت فيه .

التالي السابق


* (الفصل الثالث في بيان مراتب الناس في طول الأمل وقصره ) *

(اعلم ) أرشدك الله تعالى (أن الناس في ذلك متفاوتون; فمنهم من يأمل البقاء، ويشتهي ذلك أبدا، قال الله تعالى: يود أحدهم لو يعمر ألف سنة . ومنهم من يأمل البقاء إلى الهرم ) وهو سن سقوط القوة (وهو أقصى العمر الذي شاهده ورآه، وهو الذي يحب الدنيا حبا شديدا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشيخ شاب في حب طلب الدنيا، وإن التفت ترقوتاه من الكبر إلا الذين اتقوا وقليل ما هم" ) . قال العراقي: لم أجده بهذا اللفظ. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: "قلب الشيخ شاب على حب اثنتين: طول الحياة، وحب المال" اهـ .

قلت: بل رواه ابن المبارك في الزهد عن أبي الدرداء موقوفا بلفظ: "نفس ابن آدم شابة، ولو التفت ترقوتاه من الكبر إلا من امتحن الله قلبه للتقوى، وقليل ما هم". ورواه الحكيم الترمذي عن مكحول مرسلا. وأما حديث أبي هريرة فلفظه عند مسلم، وابن ماجه: "قلب الشيخ شاب على حب اثنين: حب العيش والمال". وعند ابن عساكر بلفظ: "في اثنتين طول الأمل، وحب المال". وروى أحمد، والترمذي، وقال: حسن صحيح، والحاكم بلفظ: "على حب اثنتين: طول الحياة، وكثرة المال"، وقال الحاكم على شرطهما، وأقره الذهبي، ورواه كذلك ابن عدي، وابن عساكر من حديث أنس. وأما البخاري فلفظه: "لا يزال قلب الكبير شابا في اثنتين: في حب الدنيا، وطول الأمل".

(ومنهم من يأمل إلى سنة، فلا يشتغل بتدبير ما وراءها، فلا يقدر لنفسه وجودا في عام قابل، ولكن هذا يستعد في الصيف للشتاء، وفي الشتاء للصيف، وإذا جمع ما يكفيه لسنة اشتغل بالعبادة. ومنهم من يأمل مدة الصيف أو ) مدة (الشتاء فلا يدخر في الصيف ثياب الشتاء، ولا في الشتاء ثياب الصيف. ومنهم من يرجع أمله إلى يوم وليلة فلا يستعد إلا لنهاره، وأما للغد فلا. قال عيسى عليه السلام: "لا تهتموا برزق غد، فإن يكن غدا من آجالكم فستأتي فيه أرزاقكم مع آجالكم، وإن لم يكن من آجالكم فلا تهتموا لآجال غيركم" ) رواه أحمد في الزهد عن سفيان نحوه .

(ومنهم من لا يجاوز أمله ساعة، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: يا عبد الله ) بن عمر (إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح ) تقدم تقريبا. (ومنهم من لا يقدر البقاء أيضا ساعة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتيمم مع القدرة على الماء قبل مضي ساعة، ويقول: "لعليلا أبلغه" ) رواه ابن أبي الدنيا في قصر الأمل من حديث ابن عباس وتقدم قريبا. (ومنهم من يكون الموت نصب عينيه ) لا يفارقه (كأنه واقع به فهو ينتظره. وهذا الإنسان هو الذي يصلي صلاة مودع ) روى الديلمي من حديث أنس: "اذكر الموت في صلاتك، فإن الرجل إذا ذكر الموت في صلاته لحري أن تحسن صلاته، وصل صلاة رجل لا يظن أنه يصلي صلاة غيرها، وإياك وكل أمر يعتذر منه". وروى ابن ماجه من حديث أبي أيوب: "إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع". وعند القضاعي من حديث ابن عمر: "صل صلاة مودع، كأنك لا تصلي بعدها". وعند العسكري في الأمثال من حديث سعد بن أبي وقاص: "وصل صلاتك وأنت مودع". (وفيه ورد ما نقل عن معاذ بن جبل رضي الله عنه لما سأله رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن حقيقة إيمانه فقال: ما خطوت خطوة إلا ظننت أني لا أتبعها بأخرى ) قال العراقي رواه أبو نعيم في الحلية من حديث أنس وهو ضعيف. (وكما نقل عن الأسود وهو حبشي ) أي أسود اللون (أنه كان يصلي ليلا، ويلتفت يمينا وشمالا، فقال له [ ص: 252 ] قائل ما هذا ) الالتفات؟ (قال: أنتظر ملك الموت من أي جهة يأتيني ) .

(فهذه مراتب الناس، ولكل درجات عند الله، وليس من أمله مقصور على شهر، كمن أمله شهر ويوم، بل بينهما تفاوت في الدرجة عند الله، فإن الله لا يظلم مثقال ذرة، ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ثم يظهر أثر قصر الأمل في المبادرة إلى العمل، وكل إنسان يدعي أنه قصير الأمل وهو كاذب ) في دعواه (وإنما يظهر ذلك بأعماله، فإنه يعتني بأسباب ربما لا يحتاج إليها في سنته، فيدل ذلك على طول أمله، وإنما علامة التوفيق أن يكون الموت نصب العين لا يغفل عنه ساعة، فيستعد للموت الذي يرد عليه في الوقت، فإن عاش إلى المساء شكر الله تعالى على طاعته وفرح، فإنه لم يضيع نهاره بل استوفى منه حظه، وادخره لنفسه، ثم يستأنف مثله إلى الصباح، وهكذا إذا أصبح. ولا يتيسر هذا إلا لمن فرغ القلب عن الغد، وما يكون فيه، فمثل هذا إذا مات سعد وغنم، وإن عاش سر لحسن الاستعداد، ولذة المناجاة، فالموت له سعادة، والحياة له مزيد، فليكن الموت على بالك يا مسكين، فإن السير حاث بك وأنت غافل عن نفسك، ولعلك قد قاربت المنزل، وقطعت المسافة، ولا تكون كذلك إلا بمبادرة العمل اغتناما لكل نفس أمهلت فيه ) .

اعلم أن العارف الكامل المستهتر بذكر الله تعالى، مستغن عن ذكر الموت، بل حاله الغنى في التوحيد لا التفات له إلى ماض، ولا مستقبل، ولا إلى الحال من حيث إنه حال، بل هو ابن وقته. وكذلك يفارقه الخوف والرجاء لأنهما سوطان يسوقان العبد إلى هذه الحال التي ملابسها بالذوق، وكيف يذكر الموت، وإنما يراد ذكر الموت لقطع علاقة قلبه عما يفارقه بالموت. والعارف قد مات في حق الدنيا، وفي حق كل ما يفارقه بالموت، فإنه قد ترفع وتنزه عن الالتفات إلى الآخرة أيضا فضلا عن الدنيا، بل قد ينغص عليه ما سوى الله تعالى، ولم يبق له من الموت إلا كشف الغطاء ليزداد به وضوحا ليزداد يقينا; وهو معنى قول علي- رضي الله عنه- : "لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا". فإن الناظر إلى غيره من وراء ستر لا يزداد برفع الستر يقينا، بل يزداد وضوحا فقط، فإذا ذكر الموت يحتاج إليه من لقلبه التفات إلى الدنيا، ليعلم أنه سيفارقها فلا يعتكف بهمته عليها; فتأمل ذلك .




الخدمات العلمية