الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الآثار : قال مطرف بن عبد الله لو علمت متى أجلي لخشيت على ذهاب عقلي ، ولكن الله تعالى من على عباده بالغفلة عن الموت ، ولولا الغفلة ما تهنأوا بعيش ، ولا قامت بينهم الأسواق .

وقال الحسن السهو والأمل نعمتان عظيمتان على بني آدم ، ولولاهما ما مشى المسلمون في الطرق وقال الثوري بلغني أن الإنسان خلق أحمق ولولا ذلك لم يهنأه العيش وقال أبو سعيد بن عبد الرحمن إنما عمرت الدنيا بقلة عقول أهلها وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه ثلاث أعجبتني حتى أضحكتني : مؤمل الدنيا والموت يطلبه ، وغافل وليس يغفل عنه ، وضاحك ملء فيه ولا يدري أساخط رب العالمين عليه أم راض . وثلاث أحزنتني حتى أبكتني : فراق الأحبة محمد وحزبه ، وهول المطلع ، والوقوف بين يدي الله ولا أدري إلى الجنة يؤمر بي أو إلى النار .

وقال بعضهم : رأيت زرارة بن أبي أوفى بعد موته في المنام ، فقلت : أي الأعمال أبلغ عندكم ؟ قال : التوكل وقصر الأمل .

وقال الثوري الزهد في الدنيا قصر الأمل ، ليس بأكل الغليظ ولا لبس العباءة .

وسأل المفضل بن فضالة ربه أن يرفع عنه الأمل فذهبت عن ، شهوة الطعام والشراب ، ثم دعا ربه فرد عليه الأمل فرجع إلى الطعام والشراب وقيل للحسن يا أبا سعيد ألا تغسل قميصك ؟ فقال : الأمر أعجل من ذلك .

وقال الحسن الموت معقود بنواصيكم ، والدنيا تطوى من ورائكم .

وقال بعضهم : " أنا كرجل ماد عنقه والسيف عليه ينتظر متى تضرب عنقه .

". وقال داود الطائي لو أملت أن أعيش شهرا لرأيتني قد أتيت عظيما ، وكيف أؤمل ذلك وأرى الفجائع تغشى الخلائق في ساعات الليل والنهار وحكي أنه جاء شقيق البلخي إلى أستاذ له يقال له أبو هاشم الرماني وفي طرف كسائه شيء مصرور ، فقال له أستاذه : إيش هذا معك فقال ؟ : لوزات دفعها إلي أخ لي ، وقال أحب أن تفطر عليها ، فقال يا شقيق وأنت تحدث نفسك أنك تبقى إلى الليل لا كلمتك أبدا ، قال : فأغلق في وجهي الباب ودخل وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته : إن لكل سفر زادا لا محالة ، فتزودوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرة التقوى وكونوا كمن عاين ما أعد الله من ثوابه ، وعقابه ، ترغبوا ، وترهبوا ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم وتنقادوا لعدوكم فإنه والله ما بسط أمل من لا يدري لعله لا يصبح بعد مسائه ، ولا يمسى بعد صباحه ، وربما كانت بين ذلك خطفات المنايا . وكم رأيت ورأيتم من كان بالدنيا مغترا وإنما تقر عين من وثق بالنجاة من عذاب الله تعالى ، وإنما يفرح من أمن أهوال القيامة ، فأما من لا يداوي كلما إلا أصابه جرح من ناحية أخرى ، فكيف يفرح ؟ أعوذ بالله من أن آمركم بما لا أنهى عنه نفسي فتخسر صفقتي وتظهر ، عيبتي وتبدو مسكنتي في يوم يبدو فيه الغنى والفقر ، والموازين فيه منصوبة . لقد عنيتم بأمر لو عنيت به النجوم لانكدرت ، ولو عنيت به الجبال لذابت ، ولو عنيت به الأرض لتشققت ، أما تعلمون أنه ليس بين الجنة والنار منزلة وإنكم ، صائرون إلى إحداهما .

وكتب رجل إلى أخ له : أما بعد ; فإن الدنيا حلم ، والآخرة يقظة ، والمتوسط بينهما الموت ، ونحن في أضغاث أحلام ، والسلام .

وكتب آخر إلى أخ له : إن الحزن على الدنيا طويل ، والموت من الإنسان قريب ، وللنقص في كل يوم منه نصيب وللبلاء ، في جسمه دبيب ، فبادر قبل أن تنادى بالرحيل ، والسلام .

وقال الحسن كان آدم عليه السلام قبل أن يخطئ أمله خلف ظهره ، وأجله بين عينيه ، فلما أصاب الخطيئة حول فجعل أمله بين عينيه ، وأجله خلف ظهره .

وقال عبد الله بن شميط سمعت أبي يقول : أيها المغتر بطول صحته ، أما رأيت ميتا قط من غير سقم ، أيها المغتر بطول المهلة أما رأيت مأخوذا قط من غير عدة ، إنك لو فكرت في طول عمرك لنسيت ما قد تقدم من لذاتك ، أبالصحة تغترون أم بطول العافية تمرحون أم الموت تأمنون أم على ملك الموت تجترئون ، إن ملك الموت إذا جاء لا يمنعه منك ثروة مالك ، ولا كثرة احتشادك ، أما علمت أن ساعة الموت ذات كرب ، وغصص ، وندامة على التفريط . ثم يقال : رحم الله عبدا عمل لما بعد الموت ، رحم الله عبدا نظر لنفسه قبل نزول الموت وقال أبو زكريا التيمي بينما سليمان بن عبد الملك في المسجد الحرام ، إذ أتي بحجر منقور ، فطلب من يقرؤه فأتي ، بوهب بن منبه فإذا فيه : " ابن آدم إنك لو رأيت قرب ما بقي من أجلك لزهدت في طول أملك ، ولرغبت في الزيادة من عملك ، ولقصرت من حرصك وحيلك ، وإنما يلقاك غدا ندمك ، لو قد زلت بك قدمك ، وأسلمك أهلك وحشمك ، وفارقك الوالد والقريب ، ورفضك الولد والنسيب ، فلا أنت إلى دنياك عائد ، ولا في حسناتك زائد ، فاعمل ليوم القيامة قبل الحسرة والندامة ". فبكى سليمان بكاء شديدا وقال بعضهم : رأيت كتابا من محمد بن يوسف إلى عبد الرحمن بن يوسف سلام عليك ، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو ، أما بعد ; فإني أحذرك متحولك من دار مهلتك إلى دار إقامتك ، وجزاء أعمالك فتصير في قرار باطن الأرض بعد ظاهرها ، فيأتيك منكر ونكير فيقعدانك وينتهرانك ، فإن يكن الله معك فلا بأس ، ولا وحشة ، ولا فاقة ، وإن يكن غير ذلك فأعاذني الله وإياك من سوء مصرع ، وضيق مضجع ثم تبلغك صيحة الحشر ، ونفخ الصور ، وقيام الجبار لفصل قضاء الخلائق وخلاء ، الأرض من أهلها والسماوات ، من سكانها فباحت الأسرار وأسعرت النار ، ووضعت الموازين وجيء ، بالنبيين والشهداء وقضي ، بينهم بالحق . وقيل الحمد لله رب العالمين ، فكم من مفتضح ومستور ، وكم من هالك وناج ، وكم من معذب ومرحوم فيا ليت ، شعري ما حالي وحالك يومئذ ؟! ففي هذا ما هدم اللذات وأسلى ، عن الشهوات ، وقصر عن الأمل ، وأيقظ النائمين ، وحذر الغافلين ، أعاننا الله وإياكم على هذا الخطر العظيم ، وأوقع الدنيا والآخرة من قلبي وقلبك موقعهما من قلوب المتقين ، فإنما نحن به وله والسلام وخطب عمر بن عبد العزيز فحمد الله ، وأثنى عليه ، وقال : أيها الناس ، إنكم لم تخلقوا عبثا ، ولن تتركوا سدى ، وإن لكم معادا يجمعكم الله فيه للحكم والفضل فيما بينكم ، فخاب وشقي غدا عبد أخرجه الله من رحمته التي وسعت كل شيء ، وجنته التي عرضها السموات والأرض ، وإنما يكون الأمان غدا لمن خاف واتقى ، وباع قليلا بكثير ، وفانيا بباق ، وشقوة بسعادة . ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين ، وسيخلف بعدكم الباقون ، ألا ترون أنكم في كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله عز وجل قد قضى نحبه ، وانقطع أمله ، فتضعونه في بطن صدع من الأرض غير موسد ، ولا ممهد .

قد خلع الأسباب ، وفارق الأحباب ، وواجه الحساب ، وايم الله إني لأقول مقالتي هذه ولا أعلم عند أحدكم من الذنوب أكثر مما أعلم من نفسي ، ولكنها سنن من الله عادلة آمر فيها بطاعته وأنهى ، فيها عن معصيته . واستغفر الله ، ووضع كمه على وجهه وجعل يبكي حتى بلت دموعه لحيته ، وما عاد إلى مجلسه حتى مات .

وقال القعقاع بن حكيم قد استعددت للموت منذ ثلاثين سنة ، فلو أتاني ما أحببت تأخير شيء عن شيء .

وقال الثوري رأيت شيخا في مسجد الكوفة يقول : أنا في هذا المسجد منذ ثلاثين سنة لو أنتظر الموت أن ينزل بي ، ولو أتاني ما أمرته بشيء ، ولا نهيته عن شيء ، ولا لي على أحد شيء ، ولا لأحد عندي شيء .

وقال عبد الله بن ثعلبة تضحك ولعل أكفانك قد خرجت من عند القصار .

وقال أبو محمد بن علي الزاهد خرجنا في جنازة بالكوفة ، وخرج فيها داود الطائي فانتبذ فقعد ناحية وهي تدفن ، فجئت فقعدت قريبا منه ، فتكلم فقال : من خاف الوعيد قصر عليه البعيد ، ومن طال أمله ضعف عمله ، وكل ما هو آت قريب . واعلم يا أخي أن كل شيء يشغلك عن ربك فهو عليك مشؤوم . واعلم أن أهل الدنيا جميعا من أهل القبور إنما ، يندمون على ما يخلفون ، ويفرحون بما يقدمون ، فما ندم عليه أهل القبور أهل الدنيا عليه يقتتلون ، وفيه يتنافسون ، وعليه عند القضاة يختصمون وروي أن معروفا الكرخي رحمه الله تعالى أقام الصلاة ، قال محمد بن أبي توبة فقال لي : تقدم فقلت : إني إن صليت بكم هذه الصلاة لم أصل بكم غيرها . فقال معروف : وأنت تحدث نفسك أن تصلي صلاة أخرى ، نعوذ بالله من طول الأمل ، فإنه يمنع من خير العمل .

وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته : إن الدنيا ليست بدار قراركم ، دار كتب الله عليها الفناء ، وكتب على أهلها الظعن عنها ، فكم من عامر موثق عما قليل يخرب ، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن . فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة ، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ، إنما الدنيا كفيء ظلال قلص فذهب بينا ، ابن آدم في الدنيا ينافس وهو قرير العين ، إذ دعاه الله بقدره ورماه بيوم حتفه فسلبه آثاره ودنياه ، وصير لقوم آخرين مصانعه ومغناه ، إن الدنيا لا تسر بقدر ما تضر ، إنها تسر قليلا وتحزن طويلا .

وعن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه كان يقول في خطبته : أين الوضاء الحسنة وجوههم ، المعجبون بشبابهم ، أين الملوك الذين بنوا المدائن ، وحصنوها بالحيطان ، أين الذين كانوا يعطون الغلبة في مواطن الحرب ، قد تضعضع بهم الدهر ، فأصبحوا في ظلمات القبور ، الوحا الوحا ثم النجا النجا .

التالي السابق


(الآثار: قال مطرف بن عبد الله ) بن الشخير- رحمه الله تعالى- : (لو علمت متى أجلي لخشيت على ذهاب عقلي، ولكن الله تعالى من على عباده بالغفلة عن الموت، ولولا الغفلة ما تهنوا بعيش، ولا قامت بينهم الأسواق ) . رواه أبو نعيم في الحلية بلفظ: "وجدت الغفلة التي ألقاها على خلقه رحمة رحمهم بها; ولو ألقى في قلوبهم الخوف على قدر معرفتهم به ما تهنأ لهم العيش". (وقال الحسن البصري ) - رحمه الله تعالى- : (السهو والأمل نعمتان عظيمتان على بني آدم، ولولاهما ما مشى المسلمون في الطريق ) . رواه أبو نعيم في الحلية. (وقال ) سفيان (الثوري ) رحمه الله تعالى: (بلغني أن الإنسان خلق أحمق ) أي قليل العقل (ولولا ذلك لم يهنه العيش ) رواه أبو نعيم في الحلية. (وقال ) أبو عبد الله (سعيد بن عبد الرحمن ) بن عبد الله بن جميل بن عامر بن خديم بن سلامان بن ربيعة بن سعد بن جمح القرشي، الجمحي، المدني، قاضي بغداد زمن الرشيد، روى عن هشام بن عروة، قال ابن معين: ثقة، مات سنة ست وسبعين ومائة، روى له مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه: (إنما عمرت الدنيا بقلة عقول أهلها ) رواه ابن أبي الدنيا في قصر الأمل.

(وقال سلمان الفارسي ) رضي الله عنه: (ثلاث أعجبتني حتى أضحكتني: مؤمل الدنيا والموت يطلبه، وغافل وليس يغفل عنه، وضاحك ملء فيه ولا يدري أساخط رب العالمين عليه أم راض. وثلاث أحزنتني حتى أبكيتني: فراق الأحبة محمد وحزبه، وهول المطلع، والوقوف بين يدي ربي لا أدري إلى الجنة يؤمر بي أو إلى النار ) . رواه أحمد في الزهد، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية قال: وحدثنا كثير بن هشام حدثنا جعفر بن برقان قال: بلغنا أن سلمان الفارسي كان يقول: "أضحكني ثلاث، وأبكاني ثلاث، ضحكت من مؤمل الدنيا والموت يطلبه، وغافل ولا يغفل عنه، وضاحك ملء فيه لا يدري أمسخط ربه أم مرضيه. وأبكاني ثلاث: فراق الأحبة محمد وحزبه، وهول المطلع عند غمرات الموت، والوقوف بين يدي رب العالمين حين لا أدري إلى النار انصرافي أم إلى الجنة. (وقال بعضهم: رأيت زرارة بن أبي أوفى ) العامري، الحرشي، البصري، العابد، رحمه الله تعالى (بعد موته في المنام، فقلت: أي الأعمال أبلغ عندكم؟ قال: التوكل وقصر الأمل ) رواه ابن أبي الدنيا في قصر الأمل. وروى أبو نعيم في الحلية قال: لقي سلمان عبد الله بن سلام فقال: إن مت قبلي فأخبرني ما تلقى، وإن مت قبلك فأخبرك، قال: فمات سلمان فرآه عبد الله بن سلام، فقال: كيف أنت يا أبا عبد الله؟ قال: بخير، قال: أي الأعمال وجدت أفضل؟ قال: وجدت التوكل شيئا عجيبا.

(وقال ) سفيان (الثوري ) رحمه الله تعالى: (الزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ، ولبس العباء ) . رواه أبو نعيم في الحلية عن سليمان بن أحمد حدثنا محمد بن عبيد بن آدم العسقلاني حدثنا أبو عمر بن النحاس حدثنا وكيع قال: قال سفيان فذكره. قال: وحدثنا أبو محمد بن حيان حدثنا محمد بن يحيى حدثنا العباس بن إسماعيل حدثنا سهل حدثنا وكيع قال: قال سفيان: "ليس الزهد في الدنيا بأكل الجشب، ولبس الخشن، إنما الزهد في الدنيا قصر الأمل". وحدثنا سليمان بن أحمد حدثنا الأحوص بن الفضل بن غسان الغلابي حدثنا إبراهيم بن [ ص: 241 ] سعد الجوهري سمعت الحسن بن عبد الملك يقول: (قال الثوري: ليس الزهد في الدنيا بلبس الخشن، ولا أكل الجشب، إنما الزهد قصر الأمل ) . وحدثنا أبو بكر الطلحي حدثنا الحسين بن جعفر حدثنا إسماعيل الطلحي قال: قال وكيع: "كان سفيان يقول: الزهد في الدنيا قصر الأمل" .

(وسأل ) أبو مالك (المفضل بن فضالة ) بن أبي أمية البصري، روى له أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، (ربه أن يرفع عنه الأمل، فذهب عنه شهوة الطعام والشراب، ثم دعا ربه فرد عليه الأمل فرجع إلى الطعام والشراب ) . رواه ابن أبي الدنيا في قصر الأمل، وفيه إشارة إلى أن المذموم منه إنما هو الاسترسال فيه لا أصله. (وقيل للحسن ) البصري (يا أبا سعيد ألا تغسل قميصك؟ فقال: الأمر أعجل من ذلك ) . رواه أبو نعيم في الحلية فقال: حدثنا أبي حدثنا أبو الحسن بن أبان حدثنا أبو بكر بن عبيد حدثنا سعدويه وإسحاق بن إبراهيم قالا حدثنا أبو معاوية عن الحسن قال قيل يا أبا سعيد فذكره. (وقال الحسن ) البصري: (الموت معقود بنواصيكم، والدنيا تطوى من ورائكم ) . رواه أبو نعيم في الحلية من طريق فضيل بن عياض عن هشام عن الحسن قال: "إنكم أصبحتم في أجل منقوص، وعمل محفوظ، والموت في رقابكم، والنار بين أيديكم، وما ترون والله ذاهب، فتوقعوا قضاء الله في كل يوم وليلة، ولينظر امرؤ ما قدم لنفسه".

(وقال بعضهم: "أنا كرجل ماد عنقه والسيف عليه ينتظر متى تضرب عنقه". وقال داود ) بن نصير (الطائي ) رحمه الله تعالى: (لو أملت أن أعيش شهرا لرأيتني قد أتيت عظيما، وكيف أؤمل ذلك وأرى الفجائع ) أي بغتات المصائب (تغشى الخلائق في ساعات الليل والنهار ) . رواه ابن أبي الدنيا في قصر الأمل. (وحكي أنه جاء شقيق البلخي ) رحمه الله تعالى (إلى أستاذ له يقال له أبو هاشم الرماني ) كان ينزل قصر الرمان بواسط، اسمه يحيى بن دينار، وقيل: يحيى بن الأسود، رأى أنس بن مالك، قال أبو حاتم: وكان فقيها، صدوقا، مات سنة 122، وقيل: سنة 145، روى له الجماعة (وفي طرف كسائه شيء مصرور، فقال له أستاذه: إيش هذا معك؟ قال: لوزات دفعها إلي أخ لي، وقال أحب أن تفطر عليها، فقال ) أستاذه: (يا شقيق ولنت تحدث نفسك أنك تبقى إلى الليل لا كلمتك أبدا، قال: فأغلق في وجهي الباب ودخل ) . رواه ابن أبي الدنيا في قصر الأمل .

(وقال عمر بن عبد العزيز ) رحمه الله تعالى (في خطبته: إن لكل سفر زادا لا محالة، فتزودوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرة التقوى ) يشير إلى قوله تعالى: وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب (وكونوا كمن عاين ما أعد الله من ثوابه، وعقابه، ترغبوا، وترهبوا ) فيه لف ونشر مرتب (ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم ) يشير إلى قوله تعالى: فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم (وتنقادوا لعدوكم ) أي إبليس (فإنه والله ما بسط أمل من لا يدري لعله لا يصبح بعد مسائه، ولا يمسي بعد صباحه، وربما كانت بين ذلك خطفات المنايا. وكم رأيت ورأيتم من كان بالدنيا مغترا وإنما تقر عين من وثق بالنجاة من عذاب الله، وإنما يفرح من أمن من أهوال يوم القيامة، فأما من لا يداوي كلما ) أي جرحا (إلا أصابه جرح من ناحية أخرى، فكيف يفرح؟ أعوذ بالله أن آمركم بما أنهى عنه نفسي فتخسر صفقتي، ويظهر عيبتي ) كذا في النسخ ولفظ الحلية عيلتي (وتبدو مسكنتي في يوم يبدو فيه الغنى والفقر، والموازين فيه منصوبة. لقد عنيتم بأمر لو عنيت به النجوم لانكدرت، ولو عنيت به الجبال لذابت، ولو عنيت به الأرض لتشققت، أما تعلمون أنه ليس بين الجنة والنار منزلة، وأنكم صائرون إلى إحداهما ) . رواه أبو نعيم في الحلية قال: حدثنا أبي ومحمد بن أحمد قالا حدثنا أحمد بن محمد بن عمر حدثنا عبد الله بن محمد بن عبيد حدثني أبو عبد الرحمن حاتم بن عبد الله الأزدي عن الحسين بن محمد الخزاعي عن [ ص: 242 ] رجل من ولد عثمان أن عمر بن عبد العزيز قال في بعض خطبته فذكره سواء بسواء .

(وكتب رجل إلى أخ له: أما بعد; فإن الدنيا حلم، والآخرة يقظة، والمتوسط بينهما الموت، ونحن في أضغاث أحلام، والسلام ) رواه ابن أبي الدنيا في قصر الأمل. (وكتب آخر إلى أخ له: إن الحزن على الدنيا طويل، والموت من الإنسان قريب، وللنقص في كل يوم منه نصيب، وللبلى في جسمه دبيب، فبادر قبل أن تنادى بالرحيل، والسلام ) . رواه أبو نعيم في الحلية قال: كتب عمر بن المنهال القرشي إلى إبراهيم بن أدهم وهو بالرملة أن عظني موعظة أحفظها عنك; فكتب إليه: أما بعد; فإن الحزن على الدنيا طويل فذكره. وفيه بعد قوله بالرحيل: "واجتهد بدار الممر قبل الانتقال إلى دار المقر". (وقال الحسن ) البصري- رحمه الله تعالى- : (كان آدم عليه السلام قبل أن يخطئ أمله خلف ظهره، وأجله بين عينيه، فلما أصاب الخطيئة حول فجعل أمله بين عينيه، وأجله خلف ظهره ) . رواه أحمد في الزهد قال حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا هشام، هو الدستوائي، عن الحسن قال: كان آدم عليه السلام قبل أن يصيب الخطيئة فذكره. ورواه أبو نعيم في الحلية من طريقه .

(وقال عبيد الله بن شميط ) بن عجلان الشيباني، البصري، ثقة، مات سنة إحدى وثمانين ومائة، روى عن أبيه وعمه الأخضر بن عجلان، وعنه عبد الرحمن بن مهدي، وسيار عبد الله بن عيسى الطفاوي، وأبو داود الطيالسي، ومحمد بن عبيد بن حساب، روى له الترمذي: (سمعت أبي ) هو أبو همام شميط بالمعجمة مصغرا، أخو الأخضر، روى عن أبي بكر الحنفي، وزهير العامري، وعطاء، وابن عمرو عنه ابنه المذكور، وجعفر بن سليمان الضبعي، وعبد الرحمن بن مهدي، ورياح بن عمرو القيسي، وأبو عاصم عبد الله بن عبيد الله العباداني، وإبراهيم بن عبد الملك، والصعق بن حزن (يقول: أيها المغتر بطول صحته، أما رأيت ميتا قط من غير سقم، أيها المغتر بطول المهلة أما رأيت مأخوذا قط من غير عدة، إنك لو فكرت في طول عمرك لنسيت ما قد تقدم من لذاتك، أبالصحة تغترون أم بطول العافية تمرحون أم الموت تأمنون أم على ملك الموت تجترئون، إن ملك الموت إذا جاء لا يمنعه منك ثروة مالك، ولا كثرة احتشادك، أما علمت أن ساعة الموت ذات كرب، وغصص، وندامة على التفريط. ثم يقول: رحم الله عبدا عمل لما بعد الموت، رحم الله عبدا نظر لنفسه قبل نزول الموت ) . رواه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد قال: أخبرت عن سيار عن عبيد الله بن شميط، قال: سمعت أبي يقول فساق نحو ذلك .

(وقال أبو زكريا ) يحيى بن طلحة بن عبيد الله (التيمي ) المدني، ثقة، روى له الترمذي، والنسائي، وابن ماجه: (بينما سليمان بن عبد الملك ) بن مروان (في المسجد الحرام، إذ أتي بحجر منقور، فطلب من يقرؤه، فأتي بوهب بن منبه ) اليماني (فإذا فيه: "ابن آدم إنك لو رأيت قرب ما بقي من أجلك لزهدت في طول أملك، ولرغبت في الزيادة من عملك، ولقصرت من حرصك وحيلك، وإنما يلقاك غدا ندمك، لو قد زلت بك قدمك، وأسلمك أهلك وحشمك، وفارقك الولد القريب، ورفضك الوالد والنسيب، فلا أنت إلى دنياك عائد، ولا في حسناتك زائد، فاعمل ليوم القيامة قبل الحسرة والندامة". فبكى سليمان بكاء شديدا ) . رواه أبو نعيم في الحلية قال: حدثنا محمد بن أحمد بن أبان حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن عبيد حدثنا أبو عبد الله بن إدريس عن أبي زكريا التيمي قال: بينما سليمان بن عبد الملك فساقه .

(وقال بعضهم: رأيت كتابا من محمد بن يوسف إلى عبد الرحمن بن يوسف ) صورته: (سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد; فإني أحذرك متحولك من دار مهلكتك ) وهي الدنيا (إلى دار إقامتك، وجزاء أعمالك ) وهي دار الآخرة (فتصير في قرار باطن الأرض بعد ظاهرها، [ ص: 243 ] فيأتيك منكر ونكير فيقعدانك ) ويسألانك (وينتهرانك، فإن يكن الله معك ) بأن هداك للجواب (فلا بأس، ولا وحشة، ولا فاقة، وإن يكن غير ذلك فأعاذني الله وإياك من سوء مصرع، وضيق مضجع ) أي في لحدك (ثم تبلغك صيحة الحشر من القبور، ونفخ الصور، وقيام الجبار ) جل جلاله (لفصل قضاء الخلائق، وجلاء الأرض من أهلها، والسموات من سكانها ) يوم يقول لمن الملك اليوم (فباحت الأسرار ) أي ظهر ما كان مخفيا منها (وأسعرت النار، ووضعت الموازين، وجيء بالنبيين والشهداء، وقضي بينهم بالحق. وقيل الحمد لله رب العالمين، فكم من مفتضح ومستور، وكم من هالك وناج، وكم من معذب ومرحوم، فياليت شعري ما حالي وحالك يومئذ؟! ففي هذا ما هدم اللذات، وسلا عن الشهوات، وقصر عن الأمل، وأيقظ النائمين، وحذر الغافلين، أعاننا الله وإياكم على هذا الخطر العظيم، وأوقع الدنيا والآخرة عن قلبي وقلبك موقعها من قلوب المتقين، فإنما نحن به وله والسلام ) . رواه ابن أبي الدنيا في قصر الأمل، ومحمد بن يوسف المذكور يحتمل أن يكون هو الفريابي أو الزبيدي الراوي عن أبي قرة، وعبد الرحمن بن يوسف يحتمل أن يكون أخاه أو رجلا آخر فليحرر .

(وخطب عمر بن عبد العزيز ) رحمه الله تعالى (فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: أيها الناس، إنكم لن تخلقوا عبثا، ولن تتركوا سدى، وإن لكم معادا يجمعكم الله فيه للحكم والفصل فيما بينكم، فخاب وشقي غدا عبد أخرجه الله من رحمته التي وسعت كل شيء، وجنته التي عرضها السموات والأرض، وإنما يكون الأمان غدا لمن خاف واتقى، وباع قليلا بكثير، وفانيا بباق، وشقوة بسعادة. ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلف بعدكم الباقون، ألا ترون أنكم في كل يوم تشيعون غاديا رائحا إلى الله عز وجل قد قضى نحبه، وانقطع أمله، فتضعونه في بطن صدع من الأرض غير موسد، ولا ممهد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وواجه الحساب، وايم الله إني لأقول مقالتي هذه ولا أعلم عند أحدكم من الذنوب أكثر مما أعلم من نفسي، ولكنها سنن من الله عادلة أمر فيها بطاعته، ونهى فيها عن معصيته. واستغفر الله، ووضع كمه على وجهه وبكى حتى بلت دموعه لحيته، وما عاد إلى مجلسه حتى مات ) .

قال أبو نعيم في الحلية: حدثنا أبو حامد بن جبلة حدثنا محمد بن إسحاق حدثنا سعدان بن نصر المخرمي حدثنا عبد الله بن بكر بن حبيب حدثني رجل أن عمر بن عبد العزيز خطب الناس بخناصرة فقال: "أيها الناس، إنكم لن تخلقوا عبثا، ولن تتركوا سدى، وإن لكم معادا ينزل الله فيه للحكم فيكم، والفصل بينكم، وقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم الجنة التي عرضها السموات والأرض. واعلموا أن الأمان غدا لمن حذر الله وخافه، وباع نافدا بباق، وقليلا بكثير، وخوفا بأمان، أولا تدرون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلفها بعدكم الباقون كذلكم حتى يردوا إلى خير الوارثين".

وقال أيضا: حدثنا أبى حدثنا أبو الحسن بن أبان حدثنا أبو بكر بن عبيد حدثنا إسحاق بن إسماعيل حدثنا يحيى بن أبي بكر حدثنا عبد الله بن الفضل التميمي قال: آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز أن صعد المنبر فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد; فإن ما في أيديكم أسلاب الهالكين، وسيتركها الباقون كما تركها الماضون، ألا ترون أنكم في كل يوم وليلة تشيعون غاديا أو رائحا إلى الله تعالى، وتضعونه في صدع من الأرض ثم في بطن الصدع، غير ممهد، ولا موسد، قد خلع الأسلاب، وفارق الأحباب، أسكن التراب، وواجه الحساب، فقير إلى ما قدم أمامه، غني عما ترك بعده. أما والله إني لأقول لكم هذا وما أعرف من أحد من الناس مثل ما أعرف من نفسي". قال ثم قال بطرف ثوبه على عينه فبكى ثم نزل فما خرج حتى أخرج إلى حفرته.

[ ص: 244 ] وقال أيضا: حدثنا محمد بن أحمد حدثنا الحسن بن محمد حدثنا أبو زرعة حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن أبي الغمر المصري حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن أبيه قال: خطب عمر بن عبد العزيز هذه الخطبة، وكانت آخر خطبة خطبها، حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "إنكم لن تخلقوا عبثا، وإنكم لن تتركوا سدى، وإن لكم معادا ينزل الله فيه فيحكم فيكم، ويفصل بينكم. وخاب وخسر من خرج من رحمة الله، وحرم جنة عرضها السموات والأرض. ألم تعلموا أنه لا يأمن غدا إلا من حذر الله اليوم، وخافه، وباع نافدا بباق، وقليلا بكثير، وخوفا بأمان. ألا ترون أنكم في أنشاب الهالكين، وستصير بعدكم للباقين، وكذلك حتى تردون إلى خير الوارثين. ثم إنكم تشيعون كل يوم غاديا ورائحا، قد قضى نحبه، وانقضى أجله حتى تغيبوه في صدع من الأرض في شق صدع، ثم تتركوه غير ممهد، ولا موسد، قد فارق الأحباب، وباشر التراب، ووجه للحساب، مرتهن بما عمل، غني عما ترك، فقير إلى ما قدم. فاتقوا الله وموافاته، وحلول الموت بكم. أما والله إني لأقول هذا وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما عندي، وأستغفر الله، وما منكم من أحد يبلغنا حاجته لا يسع له ما عندنا إلا تمنيت أن يبدأ بي وبحاجتي يكون عيشه وعيشنا واحدا. أما والله لو أردت غير هذا من غضارة العيش لكان اللسان به ذلولا، وكنت بأسبابه عالما، ولكن سبق من الله كتاب ناطق، وسنة عادلة، دل فيها على طاعته، ونهى فيها عن معصيته". ثم رفع طرف ردائه فبكى وأبكى من حوله.

ورواه محمود بن محمد في كتاب المتفجعين فقال: حدثنا عبد الله بن الهيثم بن عثمان حدثنا أبو وهب عبد الله بن بكر بن حبيب السهمي حدثنا بشر أبو نصر قال: خطبنا عمر بن عبد العزيز بخناصرة فقال: "يا أيها الناس، إنكم لن تخلقوا عبثا...." فساقه بمثله. وقال أبو نعيم أيضا: حدثنا أبو حامد بن جبلة حدثنا محمد بن إسحاق حدثنا إبراهيم بن هانئ حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن أبي حبيب أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى بعض الأجناد: "أما بعد; فإني أوصيك بتقوى الله، ولزوم طاعته، فإن بتقوى الله نجاة أولياء الله من سخطه، وبها تحق لهم ولايته، وبها رافقوا أنبياءهم، وبها نضرت وجوههم، وبها نظروا إلى خالقهم، وهي عصمة في الدنيا من الفتن، والمخرج من كرب يوم القيامة، ولن يقبل ممن بقي إلا بمثل ما رضي به عمن مضى، ولمن بقي عبرة فيما مضى، وسنة الله فيهم واحدة. فبادر بنفسك قبل أن يؤخذ بكظمك، ويخلص إليك كما خلص إلى من كان قبلك، فقد رأيت الناس كيف يموتون، وكيف يتفرقون، ورأيت الموت كيف يعجل التائب توبته، وذا الأمل أمله، وذا السلطان سلطانه. وكفى بالموت موعظة بالغة، وشاغلا عن الدنيا، ومرغبا في الآخرة، فنعوذ بالله من شر الموت وما بعده، ونسأل الله خيره وخير ما بعده". ثم ساقه بطوله وفيه: "كأن لم يكن كل يوم تشيعون غاديا أو رائحا إلى الله قد قضى نحبه; وانقضى أجله، وتغيبونه في صدع من الأرض تدعونه غير متوسد، ولا متمهد، فارق الأحبة، وخلع الأسلاب، وسكن التراب، وواجه الحساب، مرتهنا بعمله، فقيرا إلى ما قدم، غنيا عما ترك، فاتقوا الله قبل نزول الموت، وانقضاء موافاته. وايم الله إني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما أعلم عندي، وأستغفر الله وأتوب إليه".

(وقال القعقاع بن حكيم ) الكناني المدني، ذكره ابن حبان في كتاب الثقات، روى له الجماعة إلا البخاري: (قد استعددت للموت منذ ثلاثين سنة، فلو أتاني ما أحببت تأخير شيء عن شيء ) رواه ابن أبي الدنيا في قصر الأمل. (وقال ) سفيان (الثوري ) رحمه الله تعالى: (رأيت شيخا في مسجد الكوفة يقول: أنا في هذا المسجد منذ ثلاثين سنة أنتظر الموت أن ينزل بي، ولو أتاني ما أمرته بشيء، ولا نهيته عن شيء، ولا لي على أحد شيء، ولا لأحد عندي شيء ) رواه ابن أبي الدنيا في قصر الأمل .

(وقال عبد الله بن ثعلبة ) الحنفي- رحمه الله تعالى- من رجال الحلية حكى عنه حامد بن عمر البكراوي وغيره: (تضحك ولعل أكفانك قد خرجت من عند القصار ) رواه أبو نعيم في الحلية فقال حدثنا أبي حدثنا أحمد بن محمد بن عبيد حدثنا أبو بكر بن سفيان حدثنا علي بن محمد حدثنا يوسف بن أبي عبد الله قال سمعت عبد الله بن ثعلبة الحنفي يقول فذكره .

(وقال أبو محمد ) صدقة (الزاهد ) رحمه الله تعالى (خرجنا بجنازة بالكوفة، وخرج فيها داود ) بن نصير [ ص: 245 ] (الطائي ) رحمه الله تعالى (فانتبذ فقعد ناحية وهي تدفن، فجئت فقعدت قريبا منه، فتكلم فقال: من خاف الوعيد قصر عليه البعيد، ومن طال أمله ضعف عمله، وكل ما هو آت قريب. واعلم يا أخي أن كل شيء يشغلك عن ربك فهو عليك مشؤوم. واعلم أن أهل الدنيا جميعا من أهل القبور، وإنما يندمون على ما يخلفون، ويفرحون بما يقدمون، فما ندم عليه أهل القبور أهل الدنيا عليه يقتتلون، وفيه يتنافسون، وعليه عند القضاة يختصمون ) . رواه أبو نعيم في الحلية: فقال حدثنا إبراهيم بن عبد الله حدثنا محمد بن إسحاق ح وحدثنا أبو حامد أحمد بن محمد بن الحسين حدثنا الحسين بن إسماعيل قالا حدثنا محمد بن يحيى الأزدي حدثنا بشر بن مصلح حدثنا أبو محمد صدقة الزاهد قال: خرجنا مع داود الطائي في جنازة بالكوفة، قال فقعد داود ناحية وهي تدفن، فجاء الناس فقعدوا قريبا منه، فتكلم فقال فذكره .

(وروي أن ) أبا محفوظ (معروف ) بن فيروز (الكرخي- رحمه الله تعالى- أقام الصلاة، قال محمد بن أبي توبة فقال لي: تقدم ) فصل بنا، وذلك لأن معروفا كان لا يؤم، إنما يؤذن ويقيم، ويقدم غيره. قال: (فقلت: إني إن صليت بكم هذه الصلاة لم أصل بكم ) صلاة أخرى (غيرها. فقال معروف: وأنت تحدث نفسك أن تصلي صلاة أخرى، نعوذ بالله من طول الأمل، فإنه يمنع من خير العمل ) . رواه ابن الجوزي في طبقات النساك فقال: أخبرنا يحيى بن علي المدير أخبرنا يوسف بن محمد المهرواني أنبأنا محمد بن أحمد بن رزقويه حدثنا عثمان بن أحمد الدقاق حدثنا جعفر بن محمد بن العباس البزاز حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثني السري بن يوسف الأنصاري قال: أقام معروف الصلاة فذكره. وروي أيضا بسنده إلى محمد بن منصور الطوسي قال: كنا عند معروف الكرخي، وجاءت امرأة سائلة فقالت: أعطوني شيئا أفطر عليه فإني صائمة، فدعاها معروف فقال: يا أختي سر الله أفشيتيه، وتأملين أن تعيشي إلى الليل .

(وقال عمر بن عبد العزيز ) رحمه الله تعالى (في خطبته: إن الدنيا ليست بدار قراركم، دار كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها الظعن عنها، فكم من عامر موثق عما قليل ينخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن. فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، إنما الدنيا كفيء ظلال قلص فذهب، بينما ابن آدم في الدنيا ينافس وهو قرير العين، إذ دعاه الله بقدره ورماه بيوم حتفه فسلبه آثاره ودنياه، وصير لقوم آخرين مصانعه ومغناه، إن الدنيا لا تسر بقدر ما تضر، إنها تسر قليلا وتحزن طويلا ) . رواه أبو نعيم في الحلية فقال: حدثنا أبي ومحمد بن أحمد قالا حدثنا أحمد بن محمد بن عمر حدثنا أبو بكر بن سفيان حدثنا يعقوب بن إسماعيل حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا عمر بن محمد المكي قال خطب عمر بن عبد العزيز فقال: "إن الدنيا ليست بدار قراركم..." فساقه، وفي آخره: "وتجر حزنا طويلا"، وأبو بكر بن سفيان في سياق السند هو ابن أبي الدنيا هكذا رواه في كتاب القبور له .

(وعن أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- أنه كان يقول في خطبته: أين الوضاءة الحسنة وجوههم، المعجبون بشبابهم، أين الملوك الذين بنوا المدائن، وحصنوها بالحيطان، أين الذين كانوا يعطون الغلبة في مواطن الحرب، قد تضعضع بهم الدهر، فأصبحوا في ظلمات القبور، الوحا الوحا ثم النجا النجا ) . رواه أحمد في الزهد، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية قال: حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير أن أبا بكر كان يقول في خطبته: "أين الوضاءة..." فذكره .

وأخرجه أبو نعيم أيضا في ترجمة بنان الحمالي المصري فقال: حدثنا محمد بن عبيد الله بن المرزبان حدثنا علي بن سعيد حدثنا بنان الصوفي حدثنا عبيد الله بن عمر الجشمي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي حدثنا يحيى بن أبي كثير قال: خطب أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- : أين الوضاءة... فذكره. وروى أبو نعيم أيضا من طريق عبد الله بن حكيم قال: [ ص: 246 ] خطبنا أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- فقال: "أما بعد; فساقه..."، وفيه: "ثم اعلموا عباد الله أنكم تغدون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه; فإن استطعتم أن تنقضي الآجال وأنتم في عمل الله فافعلوا، ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله، فسابقوا في مهل آجالكم قبل أن تنقضي آجالكم، فيردكم إلى أسوأ أعمالكم، فإن أقواما جعلوا آجالهم لغيرهم، ونسوا أنفسهم، فأنهاكم أن تكونوا أمثالهم، الوحا الوحا النجا النجا، إن وراءكم طالبا حثيثا مره سريع".

وروى الطبراني من طريق عمرو بن دينار قال: خطبنا أبو بكر، فذكر نحو حديث عبد الله بن حكيم وزاد: "ثم تفكروا عباد الله فيمن كان قبلكم، أين كانوا أمس، وأين هم اليوم، أين الملوك، وأين الذين كانوا أثاروا الأرض وعمروها، قد نسوا ونسي ذكرهم، فهم اليوم كلا شيء، فتلك بيوتهم خاوية وهم في ظلمات القبور هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا. وأين من تعرفون من أصحابكم وإخوانكم، فقد وردوا على ما قدموا، فحلوا الشقوة والسعادة. إن الله تعالى ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب يعطيه به خيرا; ولا يصرف عنه سوءا إلا بطاعته، واتباع أمره، وإنه لا خير بخير بعده النار، ولا شر بشر بعده الجنة. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم".

وروي أيضا من طريق نعيم بن نجبة قال: كان في خطبة أبي بكر: "أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون في أجل معلوم.." فذكر نحو حديث عبد الله بن حكيم. وروى أبو نعيم في الحلية من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن سابط قال: لما حضر أبا بكر الصديق الموت دعا عمر فقال له: "اتق الله يا عمر..." فساقه، وفيه: "فإن أنت حفظت وصيتي فلا يك غائب أحب إليك من الموت، وهو آتيك، وإن أنت ضيعت وصيتي فلا يك غائب أبغض إليك من الموت، ولست بمعجزه".



* (فصل) *

ومن كلام علي- رضي الله عنه- بعد تلاوته ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر : "يا له مراما ما أبعده، وزورا ما أغفله، وخطرا ما أفظعه، لقد استحلوا منهم أي مدكر، وتناوشوهم من مكان بعيد، أفبمصارع آبائهم يفخرون أم بعديد الهلكى يتكاثرون؟! يرتجعون منهم أجسادا خوت، وحركات سكنت، ولأن يكونوا عبرا أحق بأن يكونوا مفتخرا، ولأن يهبطوا بهم خباب ذلة أحجى من أن يقوموا مقام عزة. لقد نظروا إليهم بأبصار الغشوة، وضربوا منهم في غمرة جهالة، ولو استنطقوا عنهم عرصات تلك الدار الخاوية، والربوع الخالية، لقالت ذهبوا في الأرض ضلالا، وذهبتم في أعقابهم جهالا، تطئون في هامهم، وتتشبثون في أجسادهم، وترتعون فيما لفظوا، وتسكنون فيما خربوا، وإنما الأيام بينهم وبينكم بواك ونوائح عليكم، أولئكم سلف غايتكم، وفراط مناهلكم، الذين كانت لهم مقاوم العز، وجلباب الفخر، ملوكا وسوقا، سلكوا في بطون البرزخ سبيلا. سلطت الأرض عليهم فيه فأكلت من لحومهم، وشربت من دمائهم، فأصبحوا في فجوات قبورهم جمادا لا ينمون، وضمارا لا يوجدون، لا يفزعهم ورود الأحوال، ولا يحزنهم تنكر الأحوال، ولا يحفلون بالرواجف، ولا يأذنون للقواصف، غيبا لا ينتظرون، وشهودا لا يحضرون، وإنما كانوا جميعا فشتتوا، وآلافا فافترقوا، وما عن حلول عهدهم، ولا عن بعد محلهم، عميت أخبارهم، وصمت ديارهم، ولكنهم سقوا كأسا بدلتهم بالنطق خرسا، وبالسمع صمما، وبالحركات سكونا، فكأنهم في ارتجال الصفة صرعى، سبات جيران لا يتأنسون، وأحباء لا يتزاورون، بليت بينهم عرى التعارف، وانقطعت منهم أسباب الإخاء والتعاطف، فكلهم وحيد وهم جميع، وبجانب الهجر وهم أخلاء لا يتعارفون لليل صباحا، ولا لنهار مساء، أي الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا. شاهدوا من أخطار دارهم أفظع مما خافوا، ورأوا من آياتها أعظم مما قدروا، فكلا الغايتين مدة إلى مباءة، فأتت مبالغ الخوف والرجاء .

فلو كانوا ينطقون بها لعيوا بصفة ما شاهدوا، وما عاينوا، ولئن عميت آثارهم، وانقطعت أخبارهم، لقد رجعت فيهم أبصار العبر، وسمعت عنهم آذان العقول، وتكلموا من غير جهات النطق، فقالوا كلحت الوجوه النواضر، وخوت الأجساد النواعم، ولبسنا أهدام البلى، وتكأدنا ضيق المضجع، وتوارثنا الوحشة، وتهكمت علينا الربوع الصموت، فانمحت محاسن أجسادنا، وتنكرت معارف صورنا، وطالت في مساكن الوحشة إقامتنا، ولم نجد من كرب فرجا، ولا من ضيق متسعا. فلو مثلتهم بعقلك [ ص: 247 ] أو كشف عنهم محجوب الغطاء لك، وقد ارتسخت أسماعهم بالهوام فاستكنت، واكتحلت أبصارهم بالتراب فخسفت، وتقطعت الألسنة في أفواههم بعد ذلاقتها، وهمدت القلوب في صدورهم بعد يقظتها، وعاث في كل جارحة منهم جديد بلى سمجها، وسهل طرق الآفة إليه مستلمات، فلا أيد تدفع، ولا قلوب تجزع، لرأيت أشجان قلوب، وأقذاء عيون، لهم من كل فظاعة صفة حال لا تنتقل، وغمرة لا تنجلي .

وكم أكلت الأرض من عزيز جسد، وأنيق لون، كان في الدنيا غذى ترف، وربيب شرف، يتعلل بالسرور في ساعة حزنه، ويفزع إلى السلوة إن مصيبة نزلت به، ضنا بنضارة عيشه، وشحاحة بلهوه ولعبه. فبينما هو يضحك إلى الدنيا وتضحك إليه، في ظل عيش غفول، إذ وطئ الدهر به حسكه، ونقضت الأيام قواه، ونظرت إليه الحتوف من كثب، فخالطه بث لا يعرفه، ونجي هم ما كان يجده، وتولدت فيه فترات علل أنس ما كان بصحته، ففزع إلى ما كان عوده الأطباء فلم يطفأ ببارد الأثور حرارة، ولا حرك بحار إلا هيج برودة، ولا اعتدل بممازج لتلك الطبائع إلا أمد منها كل ذات داء، حتى فتر معلله، وذهل ممرضه، وتعايا أهله بصفة دائه، وخرسوا عن جواب السائلين عنه، وتنازعوا دونه شجى خبر يكتمونه، فقائل هو لما به وممن لهم إياب عافيته، ومصبر لهم على فقده، يذكرهم أسى الماضين من قبله. فبينما هو كذلك على جناح من فراق الدنيا وترك الأحبة، إذ عرض له عارض من غصصه، فتحيرت نوافذ بطنه، ويبست رطوبة لسانه، فكم من مهم من جوابه عرفه، فعيي عن رده، ودعاء مؤلم لقلبه، سمعه فتصام عنه من كبير كان يعظمه، أو صغير كان يرحمه. وإن للموت لعبرات هي أفظع من أن تستغرق بصفة; أو تعتدل على عقول أهل الدنيا".

ومن كلامه رضي الله عنه: "فإن تقوى الله مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من كل ملكة، ونجاة من كل هلكة، بها ينجح الطالب، وينجو الهارب، وتنال الرغائب. فاعملوا والعمل يرفع، والتوبة تنفع، والدعاء يسمع، والحال هادية، والأقلام جارية. وبادروا بالأعمال عمرا ناكسا أو مرضا حابسا أو موتا خالسا; فإن الموت هادم لذاتكم، ومكدر شهواتكم، ومباعد طياتكم، زائر غير محبوب، وقرن غير مغلوب، وواتر غير مطلوب. قد أعلقتكم حبائله، وتكنفتكم غوائله، وأقصدتكم معابله، وعظمت فيكم سطوته، وتتابعت عليكم عروته، وقلت عنكم نبوته، فيوشك أن تغشاكم دواجي ظلله، واحتدام علله، وحنادس غمراته، وغواشي سكراته، وأليم إزهاقه، ودجو أطباقه، وجشوبة مذاقه. فكان قد أتاكم بغتة فأسكت نجيكم، وفرق نديكم، وعفى آثاركم، وعطل دياركم، وبعث وراثكم يقتسمون تراثكم، بين حميم خاص لم ينفع، وقريب محزون لم يمنع، وآخر شامت لم يجزع. فعليكم بالجد والاجتهاد، والتأهب والاستعداد، والتزود في منزل الزاد. ولا تغرنكم الدنيا كما غرت من قبلكم من الأمم الماضية، والقرون الخالية، الذين احتلبوا درتها، وأصابوا غرتها، وأفنوا عدتها، وأخلقوا جدتها، أصبحت مساكنهم أجداثا، وأموالهم ميراثا، لا يعرفون من أتاهم، ولا يحفلون من بكاهم، ولا يجيبون من دعاهم. فاحذروا الدنيا فإنها غدارة، خدوع معطية، منوع ملبة، نزوع لا يدوم رخاؤها، ولا ينقضي عناؤها، ولا يركد بلاؤها".

وقال- رضي الله عنه- في خطبة له: "ألا وإنكم في أيام أمل من ورائه أجل; فمن عمل في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله; وضره أجله، ألا فاعملوا في الرغبة كما تعملون في الرهبة".

وروى أبو نعيم في الحلية من طريق عبد الله بن عياش عن أبيه; أن عمر بن عبد العزيز شيع جنازة، فلما انصرفوا تأخر عمر وأصحابه ناحية عن الجنازة، فقال له أصحابه: "يا أمير المؤمنين، جنازة أنت وليها تأخرت عنها وتركتها، فقال: نعم، ناداني القبر من خلفي يا عمر بن عبد العزيز ألا تسألني ما صنعت بالأحبة؟ قلت: بلى، قال: خرقت الأكفان، ومزقت الأبدان، ومصصت الدم، وأكلت اللحم. ألا تسألني ما صنعت بالأوصال؟ قلت: بلى، قال: نزعت الكفين من الذراعين، والذراعين من العضدين، والعضدين من الكتفين، والوركين من الفخذين، والفخذين من الركبتين، والركبتين من الساقين، والساقين من القدمين". ثم بكى عمر، وقال: "ألا إن الدنيا بقاؤها قليل، وعزيزها ذليل، وغنيها فقير، وشابها يهرم، وحيها يموت، فلا يغرنكم إقبالها مع معرفتكم بسرعة إدبارها. والمغرور من اغتر بها، أين سكانها الذين بنوا مدائنها، وشققوا أنهارها، وغرسوا أشجارها؟! [ ص: 248 ] أقاموا فيها أياما يسيرة، غرتهم بصحتهم، وغروا بنشاطهم، فركبوا المعاصي، إنهم كانوا والله مغبوطين في الدنيا بالأموال على كثرة المنع عليه، محسودين على جمعه ما صنع التراب بأبدانهم، والرمل بأجسادهم، والديدان بعظامهم وأوصالهم؟! كانوا في الدنيا على أسرة ممهدة، وفرش منضدة، بين خدم يخدمون، وأهل يكرمون، وجيران يعضدون. فإذا مررت فنادهم إن كنت مناديا، وادعهم إن كنت لا بد داعيا، ومر بعسكرهم، وانظر إلى تقارب منازلهم، وسل غنيهم ما بقي من غناه، وسل فقيرهم ما بقي من فقره، وسلهم عن الألسنة التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانوا إلى اللذات بها ينظرون، وسلهم عن الجلود الرقيقة، والوجوه الحسنة، والأجساد الناعمة، ما صنع بها الديدان، محت الألوان، وأكلت اللحمان، وعفرت الوجوه، ومحت المحاسن، وكسرت الفقار، وأبانت الأعضاء، ومزقت الأشلاء. أين حجالهم، وقبابهم؟! وأين خدمهم، وعبيدهم، وجمعهم، ومكنوزهم؟! والله ما زودوهم فراشا، ولا وضعوا هناك متكأ، ولا غرسوا لهم شجرا، ولا أنزلوهم من اللحد قرارا، ليسوا في منازل الخلوات، والفلوات، أليس الليل والنهار عليهم سواء؟! أليس هم في مدلهمة ظلماء، قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة؟! فكم من ناعم وناعمة أصبحوا ووجوههم بالية، وأجسادهم من أعناقهم نائية، وأوصالهم متمزقة، وقد سالت الحدق على الوجنات، وامتلأت الأفواه دما وصديدا، ودبت دواب الأرض في أجسادهم. ثم لم يلبثوا والله إلا يسيرا حتى عادت العظام رميما، قد فارقوا الحدائق فصاروا بعد السعة إلى المضايق، قد تزوجت نساؤهم، وترددت في الطريق أبناؤهم، وتوزعت القرابات ديارهم وتراثهم، فمنهم والله الموسع له في قبره، المتنعم بلذته. يا ساكن القبر غدا ما الذي غرك من الدنيا؟! هل تعلم أنك تبقى أو تبقى لك، أين دارك الفيحاء، وبهوك المطرد، أين ثمرك الحاضر ينعه، وأين رقاق ثيابك، وأين طيبك، وأين بخورك، أين كسوتك لصيفك وشتائك، أما رأيته قد نزل به الأمر فما يدفع عن نفسه دحلا، وهو يرشح عرقا، ويتلمظ عطشا، يتقلب في سكرات الموت وغمراته، جاء الأمر من السماء، وجاء غالب القدر والقضاء، جاء أمر الأمير الآجل ما لا يمتنع مثله. هيهات هيهات يا مغمض الوالد، والأخ، والولد، وغاسله، يا مكفن الميت وحامله، يا مخليه في القبر، وراجع عنه، ليت شعري كيف كنت على جشوبة الثرى؟! يا ليت شعري بأي خديك بدأ البلى؟! يا مجاور الهلكات، صرت في محلة الموتى، ليت شعري ما يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا؟! وما يأتيني به من رسالة ربي؟!" .

ثم تمثل:


تسر بما يفنى وتشغل بالصبا * كما غر باللذات في النوم حالم نهارك يا مغرور سهو وغفلة
* وليلك نوم والردى لك لازم وتعمل فيما سوف تكره غبه
* كذلك في الدنيا تعيش البهائم

قال: "ثم انصرف فما بقي بعد ذلك إلا جمعة" .

وروي عن أبي صالح الشامي قال: قال عمر بن عبد العزيز:

أنا ميت وعز من لا يموت * قد تيقنت أنني سأموت
ليس ملك يزيله الموت ملكا * إنما الملك ملك من لا يموت

وروي عن مفضل بن يونس قال: قال عمر بن عبد العزيز: "لقد نغص هذا الموت على أهل الدنيا ما هم فيه من غضارة الدنيا وزهرتها; فبينما هم كذلك، وعلى ذلك، أتاهم حاد من الموت، فاخترمهم مما هم فيه بالويل والحسرة، هنالك لمن لم يحذر الموت، ويذكره في الرخاء، فيقدم لنفسه خيرا يجده بعد ما فارق الدنيا وأهلها". قال: "ثم بكى عمر حتى غلبه البكاء فقام". وروي عن جعونة قال: قال عمر بن عبد العزيز: "يا أيها الناس، إنما أنتم أغراض تنتضل فيها المنايا، إنكم لا تؤتون نعمة إلا بفراق أخرى، وأية أكلة ليست معها غصة، وأية جرعة ليست معها شرقة. وإن أمس شاهد مقبول قد فجعكم بنفسه، وخلف في أيديكم حكمه، وإن اليوم حبيب مودع، وهو وشيك الظعن، وإن غدا آت بما فيه، وأين يهرب من يتقلب في يد طالبه، إنه لا أقوى من طالب، ولا أضعف من مطلوب. إنما أنتم سفر ستحلون عقد رحالكم في غير هذه الدار; إنما أنتم فروع أصول قد مضت فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله".

وروي عن أبي الحسن المدائني قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عمر بن [ ص: 249 ] عبيد الله بن عتبة يعزيه على ابنه: "أما بعد; فإنا قوم من أهل الآخرة أسكنا الدنيا، أموات أبناء أموات، والعجب لميت يكتب إلى ميت يعزيه عن ميت، والسلام".

روي عن عون بن معمر قال: كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: "أما بعد; فكأنك بآخر من كتب عليه الموت قيل قد مات"، فأجابه عمر: "أما بعد; فكأنك بالدنيا لم تكن، وكأنك بالآخر لم تزل".

هذا وأمثال ذلك كثير في تراجم السلف، ومن طالع كتاب الحلية ظفر منها بالكثير .




الخدمات العلمية