الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الصدق السادس : وهو أعلى الدرجات وأعزها ، الصدق في مقامات الدين ، كالصدق في الخوف والرجاء والتعظيم والزهد والرضا والتوكل والحب ، وسائر هذه الأمور .

فإن هذه الأمور لها مباد ينطلق الاسم بظهورها ، ثم لها غايات وحقائق والصادق المحقق من نال حقيقتها ، وإذا غلب الشيء وتمت حقيقته سمي صاحبه صادقا فيه كما يقال : فلان صدق القتال .

ويقال : هذا هو الخوف الصادق ، وهذه هي الشهوة الصادقة .

وقال الله تعالى : إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا إلى قوله : أولئك هم الصادقون وقال تعالى : ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر إلى قوله : أولئك الذين صدقوا وسئل أبو ذر عن الإيمان فقرأ هذه الآية ، فقيل له : سألناك عن الإيمان ، فقال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقرأ هذه الآية .

ولنضرب للخوف مثلا ، فما من عبد يؤمن بالله واليوم الآخر إلا وهو خائف من الله خوفا ينطلق عليه الاسم .

ولكنه خوف غير صادق ، أي : غير بالغ درجة الحقيقة ، أما تراه إذا خاف سلطانا أو قاطع طريق في سفره كيف يصفر لونه وترتعد فرائصه ، ويتنغص عليه عيشه ، ويتعذر عليه أكله ونومه ، وينقسم عليه فكره حتى لا ينتفع به أهله وولده ، وقد ينزعج عن الوطن ، فيستبدل بالأنس الوحشة ، وبالراحة التعب والمشقة والتعرض للأخطار كل ذلك خوفا من درك المحذور .

ثم إنه يخاف النار ، ولا يظهر عليه شيء من ذلك عند جريان معصية عليه ؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " لم أر مثل النار نام هاربها ، ولا مثل الجنة نام طالبها تقدم فالتحقيق في هذه الأمور عزيز جدا ، ولا غاية لهذه المقامات حتى ينال تمامها ، ولكن لكل عبد منه حظ بحسب حاله ، إما ضعيف وإما قوي ، فإذا قوي سمي صادقا فيه .

فمعرفة الله تعالى وتعظيمه والخوف منه لا نهاية لها ؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام أحب أن أراك في صورتك التي هي صورتك فقال لا تطيق ذلك ، قال بلى بل أرني فواعده البقيع في ليلة مقمرة ، فأتاه ، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو به قد سد الأفق ، يعني جوانب السماء ، فوقع النبي صلى الله عليه وسلم مغشيا عليه ، فأفاق وقد عاد جبريل لصورته الأولى ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما ظننت أن أحدا من خلق الله هكذا ، قال : وكيف لو رأيت إسرافيل ؟! إن العرش لعلى كاهله ، وإن رجليه قد مرقتا تحت تخوم الأرض السفلى ، وإنه ليتصاغر من عظمة الله حتى يصير كالوصع يعني كالعصفور الصغير فانظر ما الذي يغشاه من العظمة والهيبة حتى يرجع إلى ذلك الحد ، وسائر الملائكة ليسوا كذلك ؛ لتفاوتهم في المعرفة ، فهذا هو الصدق في التعظيم .

وقال جابر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مررت ليلة أسري بي وجبريل بالملأ الأعلى كالحلس البالي من خشية الله تعالى ، يعني الكساء الذي يلقى على ظهر البعير وكذلك الصحابة كانوا خائفين وما كانوا بلغوا خوف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما لن تبلغ حقيقة الإيمان حتى تنظر الناس كلهم حمقى في دين الله .

وقال مطرف ما من الناس أحد إلا وهو أحمق فيما بينه وبين ربه ، إلا أن بعض الحمق أهون من بعض وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى ينظر إلى الناس كالأباعر في جنب الله ، ثم يرجع إلى نفسه فيجدها أحقر حقير " .

التالي السابق


(الصدق السادس: وهو أعلى الدرجات وأعزها، وهو الصدق في مقامات الدين، كالصدق في الخوف والرجاء والتعظيم والزهد والرضا والحب والتوكل، وسائر هذه الأمور؛ فإن هذه الأمور لها مباد ينطلق الاسم بظهورها، ثم لها غايات وحقائق ) وكل واحد على انحطاطه وارتفاعه يراد لغيره؛ إذ الأحوال والمقامات لا نهاية لها .

(والصادق المحقق من نال حقيقتها، وإذا غلب الشيء وتمت حقيقته سمي صاحبه صادقا فيه ) وهذا (كما يقال: فلان صدق القتال، ويقال: هذا هو الخوف الصادق، وهذه هي الشهوة الصادقة ) فالصدق في كل واحد أن يقوى إلى أن يؤدي إلى مقصوده، ومن ذلك المقصود إلى مقصود أعلى منه فصاعدا، كما تصدق المعرفة حتى تؤدي إلى المحبة، وتصدق المحبة حتى تؤدي إلى الرضا والأنس والطمأنينة والشوق، وذلك ما لا يتناهى، وهذا هو التحقيق في تمييز المقامات وتخليص بعضها من بعض، فإذا حققت أحوالك وخلصتها من الأغيار والشوائب ارتقيت من تحقيقك إلى تحقيقك، وكنت بلا أنت، والتفريد وقوفك مع الله بلا علم ولا حال، لشغلك انفراده بما هو عليه من الكمال والجلال وشمول القدرة والسلطان، فالصادق في جملة ذلك هو الصادق مطلقا، والكاذب في جملته هو الكاذب مطلقا المخلد في النار أبدا، والصادق في البعض دون البعض على خطر وهو في مشيئة الله تعالى .

(و ) لذلك (قال الله تعالى: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا إلى قوله: أولئك هم الصادقون وقال تعالى: ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر ) والملائكة والكتاب والنبيين (إلى قوله: أولئك الذين صدقوا ) وأولئك هم المتقون وهو صريح في أن الصدق بالأعمال الظاهرة والباطنة، وأن الصدق هو مقام الإسلام والإيمان .

(وسئل أبو ذر ) رضي الله عنه (عن الإيمان فقرأ هذه الآية، فقيل [ ص: 82 ] له: سألناك عن الإيمان، فقال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان ) كما سألتموني عنه (فقرأ هذه الآية ) .

قال العراقي: رواه محمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة بأسانيد منقطعة. اهـ .

فهذه درجات الصدق، فمن تحقق في جميعها فهو صديق، ومن لم يصب إلا بعضها فرتبته بقدر صدقه .

وقال صاحب منازل السائرين: الصدق اسم لحقيقة الشيء حصولا ووجودا، والصدق هو حصول الشيء وتمامه وكمال قوته واجتماع أجزائه، كما يقال: عزيمة صادقة إذا كانت قوية تامة، وكذلك: محبة صادقة، وإرادة صادقة، وكذلك صلاة صادقة إذا كانت قوية تامة ثابتة الحقيقة، لم ينقص منها شيء، ومن هذا أيضا صدق الخبر؛ لأنه وجود المخبر بتمام حقيقته في ذهن السامع، وهو على ثلاث درجات:

الأولى: صدق القصد، وبه يصح الدخول في هذا الشأن، ويتلافى كل تفريط، ويتدارك كل فائت، ويعمر كل خراب، وعلامة هذا الصادق أن لا يحتمل داعية تدعو إلى نقض عهد، ولا يصبر على صحبة ضد، ولا يقعد عن الجد بحال .

والدرجة الثانية: أن لا يتمنى الحياة إلا للحق، ولا يشهد من نفسه إلا أثر النقصان، ولا يلتفت إلى ترفيه المرخص، أي: لا يحب أن يعيش إلا في طلب رضا محبوبه، ويقوم بعبوديته، ويستكثر من الأسباب التي تقربه منه، ولا يلتفت إلى الرفاهية التي في الرخص، بل يأخذ بها اتباعا وموافقة وشهودا لنعمة الله على عبده، وتعبدا باسمه اللطيف المحسن الرفيق، وأنه رفيق يحب الرفق .

الدرجة الثالثة: الصدق في معرفة الصدق، يعني أن الصدق المحقق إنما يحصل لمن صدق في معرفة الصدق، أي: لا يحصل حال للصادق إلا بعد معرفة الصدق، ولا يستقيم الصدق في علم أهل الخصوص إلا على حرف واحد، وهو أن يتفق رضا الحق بعمل العبد وحاله ووقته وإيقانه وقصده؛ وذلك أن العبد إذا صدق الله رضي الله بفعله وبعمله وحاله ويقينه وقصده، إلا أن رضا الله نفس الصدق، وإنما يعلم الصدق بموافقة رضاه سبحانه، ولكن من أين يعلم رضاه؟! فمن ههنا كان الصادق مضطرا أشد ضرورة إلى متابعة الأمر والتسليم للرسول -صلى الله عليه وسلم- في ظاهره وباطنه، والتعبد به في كل حركة وسكون، مع إخلاص القصد لله، فإن الله سبحانه لا يرضيه من عبده إلا ذلك. انتهى .

(ولنضرب للخوف مثلا، فما من عبد يؤمن بالله واليوم الآخر إلا وهو خائف من الله خوفا ينطلق عليه الاسم، ولكنه خوف غير صادق، أي: غير بالغ درجة الحقيقة، أما تراه إذا خاف سلطانا أو قاطع طريق في سفره ) من إنسان أو سبع (كيف يصفر لونه ) ويتغير حاله (وترتعد فرائصه، ويتنغص عليه عيشه، ويتعذر عليه أكله ونومه، وينقسم عليه فكره ) وباله (حتى لا ينتفع به أهله وولده، وقد ينزعج عن الوطن، فيستبدل بالإنس الوحشة، وبالراحة التعب والمشقة والتعرض للأخطار ) والمهالك (كل ذلك خوفا من درك المحذور، ثم إنه يخاف النار، ولا يظهر عليه شيء من ذلك عند جريان معصية عليه؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "لم أر مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها ) تقدم .

(فالتحقيق في هذه الأمور عزيز جدا، ولا غاية لهذه المقامات حتى ينال تمامها، ولكن لكل عبد منه حظ بحسب حاله، إما ضعيف وإما قوي، فإذا قوي سمي صادقا فيه، فمعرفة الله وتعظيمه والخوف منه لا نهاية لها؛ ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لجبريل ) عليه السلام: (أحب أن أراك في صورتك التي هي صورتك فقال ) جبريل (لا تطيق ذلك، قال ) صلى الله عليه وسلم: (بلى ) أطيق ذلك (أرني، قال: فواعده البقيع في ليلة مقمرة، فأتاه، فنظر النبي -صلى الله عليه وسلم- فإذا هو قد سد الأفق، يعني جوانب السماء، فوقع النبي -صلى الله عليه وسلم- مغشيا عليه، فأفاق وقد عاد جبريل ) عليه السلام (لصورته الأولى، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ما ظننت أن أحدا من خلق الله هكذا، قال: وكيف لو رأيت إسرافيل؟! إن العرش لعلى كاهله، وإن رجليه قد مرقتا تخوم الأرضين السفلى، وإنه يتصاغر من عظمة الله حتى يصير كالوصع ) بفتح الصاد المهملة (يعني كالعصفور الصغير ) .

قال العراقي: تقدم في الخوف والرجاء أخصر من هذا، والذي ثبت في الصحيح أنه رأى جبريل في صورته مرتين. اهـ .

قلت: وروى أحمد وابن جرير [ ص: 83 ] وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ في العظمة، عن ابن مسعود ، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم ير جبريل في صورته إلا مرتين، أما واحدة: فإنه سأل أن يراه في صورته، فأراه صورته، فسد الأفق، وأما الثانية: فكان معه حيث صعد .

وروى أحمد وعبد بن حميد، وابن المنذر، والطبراني ، وأبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه، وأبو نعيم والبيهقي معا في الدلائل، عن ابن مسعود قال: "رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جبريل في صورته وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق".

وروى الشيخان والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الدلائل، عن ابن مسعود قال: "رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- جبريل له ستمائة جناح".

(فانظر ما الذي يغشاه من العظمة والهيبة حتى يرجع إلى ذلك الحد، وسائر الملائكة ليسوا كذلك؛ لتفاوتهم في المعرفة، فهذا هو الصدق في التعظيم ) وهو كماله وثباته .

(وقال جابر ) رضي الله عنه (قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: مررت ليلة أسري بي وجبريل بالملأ الأعلى كالحلس البالي ) بكسر الحاء المهملة وسكون اللام وإهمال السين (من خشية الله تعالى، يعني الكساء الذي يلقى على ظهر البعير ) تحت قبته، شبهه به لرؤيته له لاصقا بما لطأ به من هيبة الله، وشدة فرقه منه، وتلك الخشية التي تلبس بها هي التي رقته في مدارج التبجيل والتعظيم، وعلى قدر خوف العبد من الرب يكون قربه .

قال العراقي: رواه محمد بن نصر في كتاب تعظيم قدر الصلاة، والبيهقي في الدلائل من حديث أنس، وفيه الحارث بن عبيد الأنماري، ضعفه الجمهور .

وقال البيهقي: ورواه حماد بن سلمة، عن أبي عمران الجوني، عن محمد بن عمير بن عطارد. وهذا مرسل. اهـ .

قلت: حديث جابر رواه الطبراني في الأوسط، وعنده في بعض طرقه زيادة: "فعرفت فضل علمه بالله" وبخط الحافظ ابن حجر: رواه البزار وابن خزيمة في التوحيد (وكذلك أصحابه ) رضوان الله عليهم (كانوا خائفين ) من الله تعالى (وما كانوا بلغوا خوف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولذلك قال ابن عمر ) رضي الله عنه: (لن تبلغ حقيقة الإيمان حتى تنظر الناس كلهم حمقى في دين الله ) .

رواه أبو نعيم في الحلية، قال: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سند بن أبي سهل، حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عمر قال: "لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعد الناس حمقى في دينه".

(وقال مطرف ) بن عبد الله بن الشخير التابعي البصري -رحمه الله تعالى-: (ما من الناس أحد إلا وهو أحمق فيما بينه وبين ربه، إلا أن بعض الحمقى أهون من بعض ) .

رواه أبو نعيم في الحلية، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن الفضل، حدثنا سليمان بن الحسن، حدثنا عبد الواحد بن غياث، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت بن مطرف، قال: لو حلفت لرجوت أن أبر: إنه ليس أحد من الناس إلا وهو أحمق فيما بينه وبين ربه عز وجل .

(وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى ينظر إلى الناس كالأباعر في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيجدها أحقر حقير" ) .

قال العراقي: لم أجد له أصلا في حديث موضوع .

قلت: وفي كلام أبي الدرداء ما يشبهه، فإنه قال: "إنك لا تفقه كل الفقه حتى تمقت الناس في جنب الله، ثم ترجع إلى نفسك فتكون لها أشد مقتا للناس" رواه أحمد في الزهد .




الخدمات العلمية