الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فإذا عليك بالقناعة بالنزر القليل والرضا بالقوت فإنه يأتيك لا محالة وإن فررت منه وعند ذلك على الله أن يبعث إليك رزقك على يدي من لا تحتسب ، فإن اشتغلت بالتقوى والتوكل شاهدت بالتجربة مصداق قوله تعالى : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب الآية إلا أنه لم يتكفل له أن يرزقه لحم الطير ولذائذ الأطعمة فما ضمن إلا الرزق الذي تدوم به حياته وهذا المضمون مبذول لكل من اشتغل بالضامن واطمأن إلى ضمانه فإن الذي أحاط به تدبير الله من الأسباب الخفية للرزق أعظم مما ظهر للخلق ، بل مداخل الرزق لا تحصى ، ومجاريه لا يهتدى إليها ، وذلك لأن ظهوره على الأرض وسببه في السماء .

قال الله تعالى : وفي السماء رزقكم وما توعدون وأسرار السماء لا يطلع عليها ولهذا دخل جماعة على الجنيد فقال : ماذا تطلبون قالوا : نطلب الرزق ، فقال : إن علمتم في أي موضع هو فاطلبوه .

قالوا نسأل : الله .

قال : إن علمتم أنه ينساكم فذكروه ، فقالوا : ندخل البيت ، ونتوكل وننظر ما يكون .

فقال : التوكل على التجربة شك ، قالوا : فما الحيلة ؟ قال : ترك الحيلة .

وقال أحمد بن عيسى الخراز كنت في البادية فنالني جوع شديد ، فغلبتني نفسي أن أسأل الله تعالى طعاما فقلت : ليس هذا من أفعال المتوكلين فطالبتني أن أسأل الله صبرا فلما هممت بذلك سمعت هاتفا يهتف بي ، ويقول :


ويزعم أنه منا قريب وأنا لا نضيع من أتانا     ويسألنا على الإقتار جهدا
كأنا لا نراه ولا يرانا

فقد فهمت أن من انكسرت نفسه ، وقوي قلبه ، ولم يضعف بالجبن باطنه ، وقوي إيمانه بتدبير الله تعالى كان مطمئن النفس أبدا ، واثقا بالله عز وجل فإن أسوأ حاله أن يموت ولا بد أن يأتيه الموت كما يأتي من ليس مطمئنا فإذا ، تمام التوكل بقناعة من جانب ، ووفاء بالمضمون من جانب والذي ضمن رزق القانعين بهذه الأسباب التي دبرها صادق فاقنع وجرب تشاهد صدق الوعد ؛ تحقيقا بما يرد عليك من الأرزاق العجيبة ، التي لم تكن في ظنك وحسابك ، ولا تكن في توكلك منتظرا للأسباب ، بل لمسبب الأسباب : كما لا تكون منتظرا لقلم الكاتب بل لقلب الكاتب فإنه : أصل حركة القلم ، والمحرك الأول واحد فلا ينبغي أن يكون النظر إلا إليه وهذا شرط توكل من يخوض البوادي بلا زاد ويقعد في الأمصار ، وهو خامل .

التالي السابق


(فإذا عليك بالقناعة بالنذر اليسير) مما هو في يديك (والرضا بالقوت) المتيسر (فإنه سيأتيك لا محالة وإن فررت منه) ولذلك قال علي -رضي الله عنه-: الرزق رزقان؛ رزق يطلبك، ورزق تطلبه، فسره بعض العلماء، فقال: الرزق الذي يطلبك هو رزق الغذاء، والرزق الذي تطلبه رزق التملك، وهو طلب فضول القوت (وعند ذلك على الله أن يبعث إليك رزقك على يد من لا تحتسب، فإن اشتغلت بالتقوى والتوكل شاهدت بالتجربة مصداق قوله تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ) تمامها: ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا أخرج ابن مردويه، عن ابن مسعود قال: في قوله تعالى يجعل له مخرجا ، أي أن يعلم أنه قبل الله، وإن الله هو الذي يعطيه، وهو يمنعه، وهو يبتليه، وهو يعافيه، هو يدفع عنه وقوله: لا يحتسب يقول: من حيث لا يدري وأخرجه سعيد بن منصور، والبيهقي في الشعب من طريق بن مسروق مثله، والآية نزلت في رجل من أشجع كان قد آثر ابنه، فشكا أبوه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "اتق الله واصبر، فلم يلبث حتى جاء ابنه، واستاق غنم العدو" وفي رواية: "قال له صلى الله عليه وسلم: أن اكتب إليه، يعني ابنه، ومرة بالتقوى والتوكل على الله (إلا أنه) تعالى (لم يتكفل له أن يرزقه لحم الطير ولذائذ الأطعمة) وغيرها من فضول الأقوال (فما ضمن إلا الرزق الذي تدوم به حياته) ، وهو الرزق الطالب (وهذا المضمون مبذول لكل من اشتغل بالضامن) جل جلاله (واطمأن إلى ضمانه) وسكن إليه قلبه (فإن الذي أحاط به تدبير الله من الأسباب الخفية للرزق أعظم مما ظهر للخلق، بل مداخل الرزق لا تحصى، ومجاريه لا يهتدى إليها، وذلك لأن ظهوره على الأرض) وهي من عالم الملك (وسببه في السماء) وهي من عالم الملكوت (قال الله تعالى: وفي السماء رزقكم وما توعدون وأسرار السماء لا يطلع عليها) بتفاصيلها؛ لأنها من عالم الملكوت .

وذكر الشيخ ابن عطاء الله في كتاب التنوير لهذه الآية فوائد ما ملخصها: أي يا هذا، المطلع للرزق من المخلوق الضعيف العاجز في الأرض ليس رزقك عنده، إنما رزقك عندي، وأنا الملك القادر، ولأجل هذا لما سمع بعض الأعراب هذه الآية نحر ناقته، وخرج فارا إلى الله تعالى، وهو يقول: سبحان الله رزقي في السماء، وأنا أطلبه في الأرض، فانظر كيف فهم عن الله أن مراده بهذه الآية أن يرفع هم عباده إليه، وأن تكون رغبتهم فيما لديهم، كما قال في الآية الأخرى: وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم لتنحاش الهمم إلى بابه، وتجنح القلوب إلى جنابه، فكن سماويا علويا، ولا تكن سفليا أرضيا، ولذلك قال بعضهم:


أبعد نفوذي في علوم الحقائق وبعد انبساطي في مواهب خالقي وفي حين إشرافي على ملكوته
أرى باسطا كفا إلى غير رازق

وكيف تقر له بالربوبية يوم ألست بربكم وتعرفه وتوحده هناك، وتجهله هاهنا، وقد تواتر عليك إحسانه وغمرك فضلك وامتنانه، كما قيل:


في القلب لكم منزلة علياء لا تسكنها سعدى ولا لمياء
في الذر عرفتكم فهل يجمل بي أن أنكركم ولحيتي شمطاء

فهذه الآية هي التي غسلت الشكوك في قلوب المؤمنين، وأشرقت في قلوبهم أنوار اليقين، وقد تضمنت ذكر [ ص: 497 ] الرزق ومحله، والتشبيه له بأمر لا خفاء فيه، وفيها فوائد: الأولى: لما علم سبحانه كثرة اضطراب النفوس في شأن الرزق كرر ذكره، كما تكررت ورود عوارضه على القلوب، كما تكرر الحجة إذا علمت أن الشبه مستمكنة في نفس الخصم؛ ليكون ذلك أوكد في الحجة، فذكر في هذه الآية محل الرزق، وبينه لتسكن إليه القلوب، وليس الضمان مع إبهام المحل، كالضمان مع تبيينه، فهذا أبلغ في ثقة النفس به، وأقوى في دفع الشك فيه .

الثانية: يحتمل أنه أراد إثبات رزقكم، أي إثباته من اللوح المحفوظ، ففيه إعلام لهم أن الشيء الذي منه رزقكم أثبتناه عندنا في كتابنا، وقضيناه بمشيئتنا من قبل وجودكم، فلأي شيء تضطربون، وما لكم إلي لا تسكنون، وبوعدي لا تثقون، ويحتمل أنه أراد بالرزق الماء، وقال ابن عباس: هو المطر، فيكون الشيء الذي منه أصل رزقكم، ولأن الماء في أصله رزق .

الثالثة: يمكن أن يكون مراد الحق بهذه الآية تعجيز العباد عن دعوى القدرة على الأسباب؛ لأن الله تعالى لو أمسك الماء على الأرض لتعطل كل ذي سبب، فكأنه يقول: ليست أسبابكم هي الرازقة لكم، ولكن أنا الرازق لكم، وبيدي تيسير أسبابكم؛ لأني أنا المنزل لكم ما به كانت أسبابكم .

الرابعة: في اقتران الرزق بالأمر الموعود فائدة جليلة، وذلك أن المؤمنين علموا أن ما وعدهم الحق لا بد من كونه ولا قدرة لهم على تعجيله ولا تأجيله، ولا حيلة لهم في جلبه، فكأنه تعالى يقول: كما لا شك عندكم أن عندنا ما توعدون، كذلك لا يكن عندكم شك في أن عندنا ما ترزقون، وكما أنكم على استعجال ما وعدنا قبل وقته عاجزون، كذلك أنتم عاجزون عن أن تستعجلوا رزقا أجلته ربوبيتنا ووقفته إلهيتنا. انتهى .

(ولهذا دخل جماعة على الجنيد) -رحمه الله تعالى- (فقال: ماذا تطلبون؟ فقالوا: نطلب الرزق، فقال: إن علمتم هو في أي موضع فاطلبوه) ففيه إشارة إلى أن الرزق أسبابه حيث لا يطلع عليه (فقالو: فسل الله ذلك، قال: إن علمتم أنه) تعالى (ينساكم فذكروه، فقالوا: ندخل البيت، ونتوكل وننظر ما يكون فقال: التوكل على التجربة) بأن تدخلوا البيت مجربين الله هل يرزقكم (شك) ، أي: في الضمان وهو كفر (قالوا: فما الحيلة؟ قال: ترك الحيلة) واعتمادكم بقلوبكم على الله، واشتغالكم بما أمرتم به، ولفظ القشيري: دخل جماعة على الجنيد، فقالوا: أين نطلب الرزق؟ فقال: إن علمتم في موضع هو فاطلبوه، قالوا: فنسأل الله ذلك، فقال: إن علمتم أنه ينساكم فذكروه، فقالوا ندخل البيت فنتوكل، فقال التجربة شك، قالوا: فما الحيلة؟ قال: ترك الحيلة، انتهى .

ومنه أخذ الشاعر فقال:


إنما الحيلة في ترك الحيل

هو إشارة إلى إسقاط التدبير، وترك منازعة المقادير، وقد قال بعضهم: من لم يدبر دبر له، وقال القطب أبو الحسن الشاذلي -قدس سره-: إن كان ولا بد من التدبير فدبروا أن لا تدبروا، أي ترك التدبير هو عين التدبير، كما أن ترك الحيلة هو عين الحيلة، ولله در القائل:


أمطري لؤلؤا جبال سرنديب وفيضي جبال تكرور تبرا
أنا إن عشت لست أعدم رزقا وإذا مت لست أعدم قبرا

(وقال) أبو سعيد أحمد بن عيسى (الخراز) رحمه الله تعالى، وكان من المتوكلين (كنت في البادية) على قدم التوكل (فنالني جوع شديد) ، أي: بعد مضي عشرة أيام (فغلبتني نفسي أن أسأل الله طعاما) يرزقنيه فآكله، (فقلت: ليس هذا من فعال المتوكلين) فإن مقتضى هذا المقام تغليب عمله تعالى بحال العبد، وعدم المبادرة إلى السؤال فإنه سوء أدب (فطالبتني أن أسأل الله صبرا) على الجوع (فلما هممت بذلك سمعت هاتفا يهتف بي، ويقول:


ويزعم أنه منا قريب ونحن لا نضيع من أتانا
ويسألنا عن الأقتار جهدا كأنا لا نراه ولا يرانا)

أي فلما سمع ذلك سكن قلبه عن الاضطراب والقلق (فقد فهمت أن من انكسرت نفسه، وقوي قلبه، ولم يضعف بالجبن باطنه، وقوي إيمانه بتدبير الله تعالى) إياه في سائر أطواره وشئونه (كان مطمئن النفس أبدا، واثقا بالله عز وجل) في حسن وفائه، وصدق ضمانه (فإن أسوأ أحواله أن يموت ولا بد أن يأتيه) الموت وإن طال، (كما يأتي من ليس مطمئنا، فإذا تمام التوكل بقناعة من جانب، ووفاء المضمون من جانب) والذي ضمن رزق (القانعين بهذه الأسباب الذي دبرها) بلطيف حكمته (صادق) في وعده وضمانه (فاقنع) ليصح توكلك [ ص: 498 ] (وجرب تشاهد صدق الوعد؛ تحقيقا لما يرد عليك من الأرزاق العجيبة، التي لم تكن في ظنك و) لم تخطر في (حسابك، ولا تكن في توكلك منتظرا للأسباب، بل لمسبب الأسباب) أي: خالقها وميسرها، (كما لا تكون منتظرا لقلم الكاتب) الموقع، (بل لقلب الكاتب فإنه) أي: القلب (أصل حركة القلم، والمحرك الأول واحد) في الوجود (فلا ينبغي أن يكون النظر إلا إليه) ، وفيه تلويح إلى مقام وحدة الوجود عند الصوفية، (وهذا شرط توكل من يخوض البوادي بلا زاد) يحمله .

(و ) كذا من (يقعد في الأمصار، وهو خامل) الذكر .




الخدمات العلمية