وأما الذي له ذكر بالعبادة والعلم ، فإذا قنع في اليوم والليلة بالطعام مرة واحدة كيف كان وإن لم يكن من اللذائذ وثوب خشن يليق بأهل الدين فهذا يأتيه من حيث يحتسب ولا يحتسب على الدوام بل يأتيه أضعافه ، فتركه التوكل ، واهتمامه بالرزق غاية الضعف والقصور ، فإن اشتهاره بسبب ظاهر يجلب الرزق إليه أقوى من دخول الأمصار في حق الخامل مع الاكتساب ، فالاهتمام بالرزق قبيح بذوي الدين وهو بالعلماء أقبح ؛ لأن شرطهم القناعة والعالم القانع يأتيه رزقه ورزق جماعة كثيرة إن كانوا معه إلا إذا أراد أن لا يأخذ من أيدي الناس ويأكل ، من كسبه ، فذلك له وجه لائق بالعالم العامل الذي سلوكه بظاهر العلم والعمل ولم يكن له سير بالباطن فإن الكسب : يمنع عن السير بالفكر الباطن فاشتغاله بالسلوك مع الأخذ من يد من يتقرب إلى الله تعالى بما يعطيه أولى ؛ لأنه تفرغ لله عز وجل وإعانة للمعطي على نيل الثواب ومن نظر إلى مجاري سنة الله تعالى علم أن الرزق ليس على قدر الأسباب ولذلك سأل بعض الأكاسرة : حكيما عن الأحمق المرزوق ، والعاقل المحروم فقال أراد الصانع أن يدل على نفسه إذ
nindex.php?page=treesubj&link=19652لو رزق كل عاقل ، وحرم كل أحمق لظن أن العقل رزق صاحبه ، فلما رأوا خلافه علموا أن الرازق غيرهم ، ولا ثقة بالأسباب الظاهرة لهم قال الشاعر :
ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا هلكن إذا من جهلهن البهائم
.
وَأَمَّا الَّذِي لَهُ ذِكْرٌ بِالْعِبَادَةِ وَالْعِلْمِ ، فَإِذَا قَنِعَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بِالطَّعَامِ مَرَّةً وَاحِدَةً كَيْفَ كَانَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ اللَّذَائِذِ وَثَوْبٍ خَشِنٍ يَلِيقُ بِأَهْلِ الدِّينِ فَهَذَا يَأْتِيهِ مِنْ حَيْثُ يَحْتَسِبُ وَلَا يَحْتَسِبُ عَلَى الدَّوَامِ بَلْ يَأْتِيهِ أَضْعَافُهُ ، فَتَرْكُهُ التَّوَكُّلَ ، وَاهْتِمَامُهُ بِالرِّزْقِ غَايَةُ الضَّعْفِ وَالْقُصُورِ ، فَإِنَّ اشْتِهَارَهُ بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ يَجْلِبُ الرِّزْقَ إِلَيْهِ أَقْوَى مِنْ دُخُولِ الْأَمْصَارِ فِي حَقِّ الْخَامِلِ مَعَ الِاكْتِسَابِ ، فَالِاهْتِمَامُ بِالرِّزْقِ قَبِيحٌ بِذَوِي الدِّينِ وَهُوَ بِالْعُلَمَاءِ أَقْبَحُ ؛ لِأَنَّ شَرْطَهُمُ الْقَنَاعَةُ وَالْعَالِمُ الْقَانِعُ يَأْتِيهِ رِزْقُهُ وَرِزْقُ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ إِنْ كَانُوا مَعَهُ إِلَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ وَيَأْكُلَ ، مِنْ كَسْبِهِ ، فَذَلِكَ لَهُ وَجْهٌ لَائِقٌ بِالْعَالِمِ الْعَامِلِ الَّذِي سُلُوكُهُ بِظَاهِرِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ سَيْرٌ بِالْبَاطِنِ فَإِنَّ الْكَسْبَ : يَمْنَعُ عَنْ السَّيْرِ بِالْفِكْرِ الْبَاطِنِ فَاشْتِغَالُهُ بِالسُّلُوكِ مَعَ الْأَخْذِ مِنْ يَدِ مَنْ يَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا يُعْطِيهِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ تَفَرَّغَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِعَانَةٌ لِلْمُعْطِي عَلَى نَيْلِ الثَّوَابِ وَمَنْ نَظَرَ إِلَى مَجَارِي سُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّ الرِّزْقَ لَيْسَ عَلَى قَدْرِ الْأَسْبَابِ وَلِذَلِكَ سَأَلَ بَعْضُ الْأَكَاسِرَةِ : حَكِيمًا عَنِ الْأَحْمَقِ الْمَرْزُوقِ ، وَالْعَاقِلِ الْمَحْرُومِ فَقَالَ أَرَادَ الصَّانِعُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى نَفْسِهِ إِذْ
nindex.php?page=treesubj&link=19652لَوْ رُزِقَ كُلُّ عَاقِلٍ ، وَحُرِمَ كُلُّ أَحْمَقَ لَظُنَّ أَنَّ الْعَقْلَ رَزَقَ صَاحِبَهُ ، فَلَمَّا رَأَوْا خِلَافَهُ عَلِمُوا أَنَّ الرَّازِقَ غَيْرُهُمْ ، وَلَا ثِقَةَ بِالْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ لَهُمْ قَالَ الشَّاعِرُ :
وَلَوْ كَانَتِ الْأَرْزَاقُ تَجْرِي عَلَى الْحِجَا هَلَكْنَ إِذًا مِنْ جَهْلِهِنَّ الْبَهَائِمُ
.