إذ لا يتصور قلب فارغ وليس في الوجود إلا الله تعالى وغيره ، فمن أقبل على غيره فقد تجافى عنه ، ومن أقبل عليه تجافى عن غيره ، ويكون إقباله على أحدهما بقدر تجافيه عن الآخر وقربه من أحدهما بقدر بعده من الآخر ، ومثلهما مثل المشرق والمغرب فإنهما جهتان ، فالمتردد بينهما بقدر ما يقرب من أحدهما يبعد عن الآخر ، بل عين القرب من أحدهما هو عين البعد من الآخر ، فعين حب الدنيا هو عين بغض الله تعالى ، فينبغي أن يكون مطمح نظر العارف قلبه في عزوفه عن الدنيا وأنسه بها فإذا . والقلب إذا تجافى عما سوى الله تعالى وكان مؤمنا بالله انصرف لا محالة إلى الله ، فقط فإن ، تساويا فيه تساوت درجتهما ، إلا أن هذا مزلة قدم وموضع غرور ، فإن الغني ربما يظن أنه منقطع القلب عن المال ويكون حبه دفينا في باطنه وهو لا يشعر به ، وإنما يشعر به إذا فقده ، فليجرب نفسه بتفريقه أو إذا ، سرق منه ، فإن وجد لقلبه إليه التفاتا فليعلم أنه كان مغرورا فكم من رجل باع سرية له لظنه أنه منقطع القلب عنها فبعد لزوم البيع وتسليم الجارية اشتعلت من قلبه النار التي كانت مستكنة فيه فتحقق إذا أنه كان مغرورا وأن العشق كان مستكنا في الفؤاد استكنان النار تحت الرماد وهذا حال كل الأغنياء إلا الأنبياء والأولياء وإذا كان ذلك محالا أو بعيدا فلنطلق القول بأن الفقر أصلح لكافة الخلق وأفضل ؛ لأن علاقة الفقير وأنسه بالدنيا أضعف وبقدر ضعف علاقته يتضاعف ثواب تسبيحاته وعباداته فإن حركات اللسان ليست مرادة لأعيانها بل ليتأكد بها الأنس بالمذكور ولا يكون تأثيرها في إثارة الأنس في قلب فارغ من غير المذكور كتأثيرها في قلب مشغول ولذلك قال بعض السلف : مثل من تعبد وهو في طلب الدنيا مثل من يطفئ النار بالحلفاء ومثل من يغسل يده من الغمر بالسمك . فضل الفقير والغني بحسب تعلق قلبيهما بالمال
وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى: تنفس فقير دون شهوة لا يقدر عليها أفضل من عبادة غني ألف عام .
وعن الضحاك قال : من دخل السوق فرأى شيئا يشتهيه فصبر واحتسب كان خيرا له من ألف دينار ينفقها كلها في سبيل الله تعالى .
وقال رجل لبشر بن الحارث رحمه الله ادع الله لي فقد أضر بي العيال فقال إذا قال لك عيالك : ليس عندنا دقيق ولا خبز فادع الله لي في ذلك الوقت ، فإن دعاءك أفضل من دعائي وكان يقول : مثل الغني المتعبد مثل روضة على مزبلة ومثل الفقير المتعبد مثل عقد الجوهر في جيد الحسناء وقد كانوا يكرهون سماع علم المعرفة من الأغنياء وقد قال رضي الله عنه : اللهم إني أسألك الذل عند النصف من نفسي والزهد فيما جاوز الكفاف . أبو بكر الصديق
وإذا كان مثل رضي الله عنه في كماله يحذر من الدنيا ووجودها فكيف يشك في أن فقد المال أصلح من وجوده هذا مع أن أحسن أحوال الغني أن يأخذ حلالا وينفق طيبا ، ومع ذلك فيطول حسابه في عرصات القيامة ويطول انتظاره ، ومن نوقش الحساب فقد عذب ولهذا تأخر الصديق عن الجنة إذ كان مشغولا بالحساب كما رآه رسول الله : صلى الله عليه وسلم : ولهذا قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ما أحب أن لي حانوتا على باب المسجد ولا تخطئني فيه صلاة وذكر وأربح كل يوم خمسين دينارا وأتصدق بها في سبيل الله تعالى ، قيل وما تكره ؟ قال : سوء الحساب ولذلك قال سفيان رحمه الله اختار الفقراء ثلاثة أشياء ، واختار الأغنياء ثلاثة أشياء ، اختار الفقراء راحة النفس وفراغ القلب وخفة الحساب ، واختار الأغنياء تعب النفس ، وشغل القلب ، وشدة الحساب وما ذكره أبو الدرداء ابن عطاء من إن الغنى وصف الحق فهو بذلك أفضل فهو صحيح ، ولكن إذا كان العبد غنيا عن وجود المال وعدمه جميعا بأن يستوي عنده كلاهما ، فأما إذا كان غنيا بوجوده ومفتقرا إلى بقائه فلا يضاهي غناه غنى الله تعالى لأن الله تعالى غني بذاته لا بما يتصور زواله والمال يتصور زواله بأن يسرق وما ذكر من الرد عليه بأن الله ليس غنيا بالأعراض والأسباب صحيح في ذم غني يريد بقاء المال وما ذكر من أن صفات الحق لا تليق بالعبد غير صحيح بل العلم من صفاته وهو أفضل شيء للعبد بل منتهى العبد أن يتخلق بأخلاق الله تعالى وقد سمعت بعض المشايخ يقول : إن سالك الطريق إلى الله تعالى قبل أن يقطع الطريق تصير الأسماء التسعة والتسعون أوصافا له أي: يكون له من كل واحد نصيب .
وأما التكبر فلا يليق بالعبد فإن ليس من صفات الله تعالى وأما التكبر على من لا يستحق التكبر عليه كتكبر المؤمن على الكافر وتكبر العالم على الجاهل والمطيع على العاصي فيليق به نعم ، قد يراد بالتكبر الزهو والصلف والإيذاء وليس ذلك من وصف الله تعالى ، وإنما وصف الله تعالى أنه أكبر من كل شيء وأنه ، يعلم أنه كذلك والعبد مأمور بأنه يطلب أعلى المراتب إن قدر عليه ولكن بالاستحقاق كما هو حقه لا بالباطل والتلبيس ، فعلى العبد أن يعلم أن المؤمن أكبر من الكافر ، والمطيع أكبر من العاصي ، والعالم أكبر من الجاهل ، والإنسان أكبر من البهيمة والجماد والنبات ، وأقرب إلى الله تعالى منها ، فلو رأى نفسه بهذه الصفة رؤية محققة لا شك فيها لكانت صفة التكبر حاصلة له ولائقة به ، وفضيلة في حقه إلا أنه لا سبيل له إلى معرفته فإن ذلك موقوف على الخاتمة وليس يدري الخاتمة كيف تكون وكيف تتفق ، فلجهله بذلك وجب أن لا يعتقد لنفسه رتبة فوق رتبة الكافر إذ ربما يختم للكافر بالإيمان وقد يختم له بالكفر فلم يكن ذلك لائقا به لقصور علمه عن معرفة العاقبة ولما تصور أن يعلم الشيء على ما هو به كان العلم كمالا في حقه لأنه في صفات الله تعالى ، ولما كانت معرفة بعض الأشياء قد تضره صار ذلك العلم نقصانا في حقه ، إذ ليس من أوصاف الله تعالى علم يضره ، فمعرفة الأمور التي لا ضرر فيها هي التي تتصور في العبد من صفات الله تعالى فلا جرم هو منتهى الفضيلة وبه فضل الأنبياء والأولياء والعلماء فإذا ، لو استوى عنده وجود المال وعدمه فهذا نوع من الغنى يضاهي بوجه من الوجوه الغنى الذي يوصف به الله سبحانه وتعالى فهو فضيلة أما الغنى بوجود المال فلا فضيلة فيه أصلا . فهذا بيان التكبر على من يستحقه . نسبة حال الفقير القانع إلى حال الغني الشاكر