بيان . فضيلة الفقر على الغنى
اعلم أن الناس قد اختلفوا في هذا فذهب الجنيد والخواص والأكثرون إلى تفضيل الفقر وقال ابن عطاء الغني الشاكر القائم بحقه أفضل من الفقير الصابر ، ويقال أن : دعا على الجنيد ابن عطاء لمخالفته إياه في هذا فأصابته محنة وقد ذكرنا ذلك في كتاب الصبر وبينا أوجه التفاوت بين الصبر والشكر ومهدنا سبيل طلب الفضيلة في الأعمال والأحوال ، وأن ذلك لا يمكن إلا بتفصيل .
فأما ، الفقر والغنى إذا أخذا مطلقا لم يسترب من قرأ الأخبار والآثار في تفضيل الفقر ولا بد فيه من تفصيل فنقول إنما يتصور الشك في مقامين أحدهما فقير صابر ليس بحريص على الطلب بل هو قانع أو راض بالإضافة إلى غني منفق ماله في الخيرات ليس حريصا على إمساك المال والثاني فقير حريص مع غني حريص إذ لا يخفى أن الفقير القانع أفضل من الغني الحريص الممسك وأن الغني المنفق ماله في الخيرات أفضل من الفقير الحريص أما الأول فربما يظن أن الغني أفضل من الفقير ؛ لأنهما تساويا في ضعف الحرص على المال والغني متقرب بالصدقات والخيرات والفقير عاجز عنه وهذا هو الذي ظنه ابن عطاء فيما نحسبه ، فأما الغني المتمتع بالمال ، وإن كان في مباح فلا يتصور أن يفضل على الفقير القانع . وقد يشهد له ما روي في الخبروالحج والجهاد فعلمهم كلمات في التسبيح وذكر لهم أنهم ينالون بها فوق ما ناله الأغنياء ، فتعلم الأغنياء ذلك فكانوا يقولونه فعاد الفقراء ، إلى رسول الله : صلى الله عليه وسلم فأخبروه : فقال صلى الله عليه وسلم : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء سبق الأغنياء بالخيرات والصدقات . أن الفقراء شكوا إلى رسول الله : صلى الله عليه وسلم :
وقد استشهد ابن عطاء أيضا لما سئل عن ذلك فقال الغني : أفضل ؛ لأنه وصف الحق ، أما دليله الأول ففيه نظر ؛ لأن الخبر قد ورد مفصلا تفصيلا يدل على خلاف ذلك وهو أن ، وأن فوزهم بذلك الثواب فضل الله يؤتيه من يشاء فقد روى ثواب الفقير في التسبيح يزيد على ثواب الغني زيد بن أسلم عن رضي الله عنه قال : أنس بن مالك بعث الفقراء رسولا إلى رسول الله : صلى الله عليه وسلم : فقال : إني رسول الفقراء إليك فقال : مرحبا بك وبمن جئت من عندهم ، قوم أحبهم قال : قالوا : يا رسول الله ، إن الأغنياء ذهبوا بالخير يحجون ولا نقدر عليه ويعتمرون ولا نقدر عليه وإذا مرضوا بعثوا بفضل أموالهم ذخيرة لهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بلغ عني الفقراء أن لمن صبر واحتسب منكم ثلاث خصال ليست للأغنياء : أما خصلة واحدة : فإن في الجنة غرفا ينظر إليها أهل الجنة كما ينظر أهل الأرض إلى نجوم السماء لا يدخلها إلا نبي فقير أو شهيد فقير أو مؤمن فقير ، والثانية : يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وهو خمسمائة عام والثالثة : إذا قال الغني : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، وقال الفقير مثل ذلك لم يلحق الغني بالفقير ، ولو أنفق فيها عشرة آلاف درهم وكذلك أعمال البر كلها ، فرجع إليهم فأخبرهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا رضينا رضينا فهذا يدل على أن قوله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء أي : مزيد ثواب الفقراء على ذكرهم ، وأما قوله : إن الغني وصف الحق فقد أجابه بعض الشيوخ فقال : أترى أن الله تعالى غني بالأسباب والأعراض فانقطع ولم ينطق وأجاب آخرون فقالوا إن التكبر من صفات الحق فينبغي أن يكون أفضل من التواضع ثم قالوا : بل هذا يدل على أن الفقر أفضل ؛ لأن وصفات الربوبية لا ينبغي أن ينازع فيها ولذلك قال تعالى فيما روى عنه نبينا : صلى الله عليه وسلم صفات العبودية أفضل للعبد كالخوف والرجاء . الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما قصمته
وقال سهل حب العز والبقاء شرك في الربوبية ومنازعة فيها ؛ لأنهما من صفات الرب تعالى .