فقوله صلى الله عليه وسلم : " لا أحصي " خبر عن فناء نفسه وخروج عن مشاهدتها .
وقوله : " أنت كما أثنيت على نفسك " بيان أنه المثني والمثنى عليه وأن الكل منه بدأ ، وإليه يعود ، وأن كل شيء هالك إلا وجهه فكان أول مقاماته نهاية مقامات الموحدين ، وهو أن لا يرى إلا الله تعالى وأفعاله فيستعيذ بفعل من فعل ، فانظر إلى ماذا انتهت نهايته إذ انتهى إلى الواحد الحق حتى ارتفع من نظره ومشاهدته سوى الذات الحق ولقد كان صلى الله عليه وسلم لا يرقى من رتبة إلى أخرى إلا ويرى الأولى بعدا بالإضافة إلى الثانية فكان يستغفر الله من الأولى ، ويرى ذلك نقصا في سلوكه وتقصيرا في مقامه وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم : إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة .
فكان ذلك أولها وإن كان مجاوزا أقصى غايات الخلق ولكن كان نقصانا ، بالإضافة إلى آخرها ، فكان استغفاره ولما قالت لترقيه إلى سبعين مقاما بعضها فوق البعض رضي الله عنها أليس عائشة قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فما هذا البكاء في السجود ؟ وما هذا الجهد الشديد قال : أفلا أكون عبدا شكورا .
أفلا أكون طالبا للمزيد في المقامات ، فإن حيث قال تعالى : الشكر سبب الزيادة لئن شكرتم لأزيدنكم .
وإذ تغلغلنا في بحار المكاشفة ، فلنقبض العنان ، ولنرجع إلى ما يليق بعلوم المعاملة ، فنقول : الأنبياء عليهم السلام بعثوا لدعوة الحق إلى كمال التوحيد الذي وصفناه ولكن بينهم وبين الوصول إليه مسافة بعيدة ، وعقبات شديدة ، وإنما الشرع كله تعريف طريق سلوك تلك المسافة ، وقطع تلك العقبات ، وعند ذلك يكون النظر عن مشاهدة أخرى ، ومقام آخر ، فيظهر في ذلك المقام بإضافة إلى تلك المشاهدة ، الشكر ، والشاكر ، والمشكور ، ولا يعرف ذلك إلا بمثال فأقول : يمكنك أن تفهم أن ملكا من الملوك أرسل إلى عبد قد بعد منه مركوبا وملبوسا ونقدا لأجل زاده في الطريق حتى يقطع به مسافة البعد ، ويقرب من حضرة الملك ، ثم يكون له حالتان ، إحداهما أن يكون قصده من وصول العبد إلى حضرته أن يقوم ببعض مهماته ، ويكون له عناية في خدمته ، والثانية أن لا يكون للملك حظ في العبد ، ولا حاجة به إليه ، بل حضوره لا يزيد في ملكه ، لأنه لا يقوى على القيام بخدمة تغني فيه غناء ، وغيبته لا تنقص من ملكه ، فيكون قصد من الإنعام عليه بالمركوب والزاد أن يحظى العبد بالقرب منه وينال سعادة حضرته لينتفع هو في نفسه لا لينتفع الملك به وبانتفاعه فمنزل ، العباد من الله تعالى في المنزلة الثانية لا في المنزلة الأولى فإن الأولى محال على الله تعالى والثانية غير محال .