ثم اعلم أن العبد لا يكون شاكرا في الحالة الأولى بمجرد الركوب والوصول إلى حضرته ما لم يقم بخدمته التي أرادها الملك منه ، وأما في الحالة الثانية فلا يحتاج إلى الخدمة أصلا ، ومع ذلك يتصور أن يكون شاكرا وكافرا ، ويكون شكره بأن يستعمل ما أنفذه إليه مولاه فيما أحبه لأجله لا لأجل نفسه ، وكفره أن لا يستعمل ذلك فيه بأن يعطله أو يستعمله فيما يزيد في بعده منه ، فمهما لبس العبد الثوب وركب الفرس ولم ينفق الزاد إلا في الطريق فقد شكره مولاه إذ استعمل نعمته في محبته أي : فيما أحبه لعبده لا لنفسه ، وإن ركبه واستدبر حضرته وأخذ يبعد منه فقد كفر نعمته أي : استعملها فيما كرهه مولاه لعبده لا لنفسه ، وإن جلس ولم يركب لا في طلب القرب ولا في طلب البعد فقد كفر أيضا نعمته إذا أهملها وعطلها ، وإن كان هذا دون ما لو بعد منه ، فكذلك خلق الله سبحانه الخلق وهم في ابتداء فطرتهم يحتاجون إلى استعمال الشهوات لتكمل بها أبدانهم ، فيبعدون بها عن حضرته ، وإنما سعادتهم في القرب منه فأعد لهم من النعم ما يقدرون على استعماله في نيل درجة القرب ، وعن بعدهم وقربهم عبر الله تعالى إذ قال : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا الآية فإذا . ، والله تعالى غني عنه قرب أم بعد ، والعبد فيها بين أن يستعملها في الطاعة فيكون قد شكر لموافقة محبة مولاه ، وبين أن يستعملها في معصيته فقد كفر لاقتحامه ما يكرهه مولاه ولا يرضاه له ، فإن الله لا يرضى لعباده الكفر والمعصية وإن عطلها ولم يستعملها في طاعة ولا معصية فهو أيضا كفران للنعمة بالتضييع ، وكل ما خلق في الدنيا إنما خلق آلة للعبد ليتوصل به إلى سعادة الآخرة ، ونيل القرب من الله تعالى ، نعم الله تعالى آلات يترقى العبد بها عن أسفل السافلين خلقها الله تعالى لأجل العبد حتى ينال بها سعادة القرب وكل كسلان ترك الاستعمال أو عاص استعملها في طريق البعد فهو كافر جار في غير محبة الله تعالى ، فالمعصية والطاعة تشملهما المشيئة ولكن لا تشملهما المحبة والكراهة بل رب مراد محبوب ورب مراد مكروه ووراء بيان هذه الدقيقة سر القدر الذي منع من إفشائه وقد انحل بهذا الإشكال الأول ، وهو أنه إذا لم يكن للمشكور حظ فكيف يكون الشكر وبهذا أيضا ينحل الثاني فإنا لم نعن بالشكر إلا انصراف نعمة الله في جهة محبة الله فإذا انصرفت النعمة في جهة المحبة بفعل الله فقد حصل المراد ، وفعلك عطاء من الله تعالى ، ومن حيث أنت محله ، فقد أثنى عليك ، وثناؤه نعمة أخرى منه إليك ، فهو الذي أعطى وهو الذي ، أثنى وصار أحد فعليه سببا لانصراف فعله الثاني إلى جهة محبته فله الشكر على كل حال ، وأنت موصوف بأنك شاكر بمعنى أنك محل المعنى الذي الشكر عبارة عنه لا بمعنى أنك موجب له ، كما أنك موصوف بأنك عارف وعالم لا بمعنى أنك خالق للعلم وموجده ، ولكن بمعنى أنك محل له وقد وجد بالقدرة الأزلية فيك فوصفك بأنك شاكر إثبات شيئية لك وأنت شيء إذ جعلك خالق الأشياء شيئا وإنما أنت لا شيء إذا كنت أنت ظانا لنفسك شيئا من ذاتك . فأما باعتبار النظر إلى الذي جعل الأشياء شيئا : فأنت شيء إذ جعلك شيئا فإن قطع النظر عن جعله كنت لا شيء تحقيقيا ، وإلى هذا أشار صلى الله عليه وسلم حيث قال : فكل مطيع فهو بقدر طاعته شاكر نعمة الله في الأسباب التي استعملها في الطاعة ، إذا كانت الأشياء قد فرغ منها من قبل . اعملوا فكل ميسر لما خلق له لما قيل له يا رسول الله ففيم العمل
فتبين أن ، وإن كانوا هم أيضا من أفعاله ، ولكن بعض أفعاله محل للبعض . الخلق مجاري قدرة الله تعالى ، ومحل أفعاله
وقوله : اعملوا وإن كان جاريا على لسان الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فهو فعل من أفعاله ، وهو سبب لعلم الخلق أن العمل نافع ، وعلمهم فعل من أفعال الله تعالى ، والعلم سبب لانبعاث داعية جازمة إلى الحركة والطاعة ، وانبعاث الداعية أيضا من أفعال الله تعالى ، وهو سبب لحركة الأعضاء ، وهي أيضا من أفعال الله تعالى ، ولكن بعض أفعاله سبب للبعض أي : الأول شرط للثاني ، كما كان خلق الجسم سببا لخلق العرض إذ لا يخلق العرض قبله .