القسم الثالث : الذي يقارن حال العقد بأن فإن استمر عليه حتى سلم فلا خلاف في أنه يقضي ولا يعتد بصلاته وإن ، ندم عليه في أثناء ذلك ، واستغفر ، ورجع قبل التمام ، ففيما يلزمه ثلاثة أوجه . يبتدئ الصلاة على قصد الرياء ،
قالت فرقة : لم تنعقد صلاته مع قصد الرياء ، فليستأنف .
وقالت فرقة تلزمه إعادة الأفعال ، كالركوع والسجود ، وتفسد أفعاله دون تحريمة الصلاة ؛ لأن التحريم عقد ، والرياء خاطر في قلبه لا يخرج التحريم عن كونه عقدا .
وقالت فرقة لا يلزمه إعادة شيء ، بل يستغفر الله بقلبه ، ويتم العبادة على الإخلاص ، والنظر إلى خاتمة العبادة كما لو ابتدأ بالإخلاص وختم بالرياء ، لكان يفسد عمله .
وشبهوا ذلك بثوب أبيض لطخ بنجاسة عارضة ، فإذا أزيل العارض عاد إلى الأصل ، فقالوا : إن الصلاة والركوع والسجود لا تكون إلا لله ولو لكان كافرا ولكن ، اقترن به عارض الرياء ، ثم زال بالندم والتوبة وصار إلى حالة لا يبالي بحمد الناس وذمهم فتصح صلاته . سجد لغير الله
ومذهب الفريقين الآخرين خارج عن قياس الفقه جدا ، خصوصا من قال : يلزمه إعادة الركوع والسجود دون الافتتاح ؛ لأن الركوع والسجود إن لم يصح صارت أفعالا زائدة في الصلاة فتفسد ، الصلاة .
وكذلك قول من يقول : لو ختم بالإخلاص صح ؛ نظرا إلى الآخر ، فهو أيضا ضعيف ؛ لأن الرياء يقدح في النية ، وأولى الأوقات بمراعاة أحكام النية حال الافتتاح ، فالذي يستقيم على قياس الفقه هو أن يقال : إن كان باعثه مجرد الرياء في ابتداء العقد دون طلب الثواب وامتثال الأمر لم ينعقد افتتاحه ، ولم يصح ما بعده وذلك فيمن إذا خلا بنفسه لم يصل ، ولما رأى الناس تحرم بالصلاة ، وكان بحيث لو كان ثوبه نجسا أيضا كان يصلي لأجل الناس ، فهذه صلاة لا نية فيها ؛ إذ النية عبارة عن إجابة باعث الدين ، وههنا لا باعث ولا إجابة .
فأما إذا كان بحيث لولا الناس أيضا لكان يصلي إلا أنه ظهر له الرغبة في المحمدة أيضا فاجتمع الباعثان فهذا إما أن يكون في صدقة وقراءة ، وما ليس فيه تحليل وتحريم أو ، في عقد صلاة وحج ، فإن كان في صدقة فقد عصى بإجابة باعث الرياء ، وأطاع بإجابة باعث الثواب فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره فله ثواب بقدر قصده الصحيح ، وعقاب بقدر قصده الفاسد ، ولا يحبط أحدهما الآخر .
وإن . كان في صلاة تقبل الفساد بتطرق خلل إلى النية فلا يخلو إما أن تكون فرضا أو نفلا ، فإن كانت نفلا فحكمها أيضا حكم الصدقة ، فقد عصى من وجه وأطاع من وجه إذا اجتمع في قلبه الباعثان ، ولا يمكن أن يقال : صلاته فاسدة ، والاقتداء به باطل ، حتى إن من صلى التراويح وتبين من قرائن حاله أن قصده الرياء بإظهار حسن القراءة ، ولولا اجتماع الناس خلفه وخلا في بيت وحده لما صلى ، لا يصح الاقتداء به ، فإن المصير إلى هذا بعيد جدا ، بل يظن بالمسلم أنه يقصد الثواب أيضا بتطوعه فتصح ، باعتبار ذلك القصد صلاته ، ويصح الاقتداء به ، وإن اقترن به قصد آخر وهو به عاص فأما إذا كان في فرض واجتمع ، الباعثان ، وكان كل واحد لا يستقل وإنما يحصل الانبعاث بمجموعهما ، فهذا لا يسقط الواجب عنه ؛ لأن الإيجاب لم ينتهض باعثا في حقه بمجرده واستقلاله ، وإن كان كل باعث مستقلا حتى لو لم يكن باعث الرياء لأدى الفرائض ، ولو لم يكن باعث الفرض لأنشأ صلاة تطوعا لأجل الرياء ، فهذا محل النظر ، وهو محتمل جدا ، فيحتمل أن يقال : إن الواجب صلاة خالصة لوجه الله ، ولم يؤد الواجب الخالص ، ويحتمل أن يقال : الواجب امتثال الأمر بباعث مستقل بنفسه ، وقد وجد ، فاقتران غيره به لا يمنع سقوط الفرض عنه ، كما لو صلى في دار مغصوبة فإنه وإن كان عاصيا بإيقاع الصلاة في الدار المغصوبة فإنه مطيع بأصل الصلاة ومسقط للفرض ، عن نفسه ، وتعارض الاحتمال في تعارض البواعث في أصل الصلاة . أما إذا كان الرياء في المبادرة مثلا دون أصل الصلاة مثل من بادر إلى الصلاة في أول الوقت لحضور جماعة ولو خلا لأخر إلى وسط الوقت ، ولولا الفرض لكان لا يبتدئ صلاة لأجل الرياء ، فهذا مما يقطع بصحة صلاته ، وسقوط الفرض به ؛ لأن باعث أصل الصلاة من حيث إنها صلاة لم يعارضه غيره ، بل من حيث تعيين الوقت ، فهذا أبعد من القدح في النية . هذا في رياء يكون باعثا على العمل ، وحاملا عليه وأما ، مجرد السرور باطلاع الناس عليه إذا لم يبلغ أثره إلى حيث يؤثر في العمل فبعيد أن يفسد الصلاة .
فهذا ما نراه لائقا بقانون الفقه والمسألة غامضة من حيث إن الفقهاء لم يتعرضوا لها في فن الفقه والذين خاضوا فيها وتصرفوا لم يلاحظوا قوانين الفقه ، ومقتضى فتاوى الفقهاء في صحة الصلاة وفسادها ، بل حملهم الحرص على تصفية القلوب وطلب الإخلاص على إفساد العبادات بأدنى الخواطر وما ذكرناه هو الأقصد فيما نراه ، والعلم عند الله عز وجل فيه وهو عالم الغيب والشهادة وهو الرحمن الرحيم .