مثال آخر للدنيا ، وعبور الإنسان بها ، اعلم أن الأحوال ثلاثة : حالة لم تكن فيها شيئا وهي ما قبل وجودك إلى الأزل وحالة لا تكون فيها مشاهدا للدنيا ، وهي ما بعد موتك إلى الأبد وحالة متوسطة بين الأبد والأزل ، وهي أيام حياتك في الدنيا فانظر إلى مقدار طولها ، وانسبه إلى طرفي الأزل والأبد حتى تعلم أنه أقل من منزل قصير في سفر بعيد ; ولذلك قال صلى الله عليه وسلم ما لي : وللدنيا وإنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب سار في يوم صائف فرفعت شجرة ، فقال تحت ظلها ساعة ثم راح وتركها .
ومن رأى الدنيا بهذه العين لم يركن إليها ، ولم يبال كيف انقضت أيامه في ضر وضيق ، أو في سعة ورفاهية ، بل لا يبني لبنة على لبنة .
، ولا قصبة على قصبة . توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما وضع لبنة على لبنة
ورأى بعض الصحابة يبني بيتا من جص فقال : أرى الأمر أعجل من هذا وأنكر ذلك وإلى هذا أشار عيسى عليه السلام حيث قال : الدنيا قنطرة فاعبروها ، ولا تعمروها وهو مثال واضح ، فإن الحياة الدنيا معبر إلى الآخرة والمهد ، هو الميل الأول على رأس القنطرة ، واللحد هو الميل الآخر .
وبينهما مسافة محدودة فمن الناس من قطع نصف القنطرة ، ومنهم من قطع ثلثها ، ومنهم من قطع ثلثيها ، ومنهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة ، وهو غافل عنها ، وكيفما كان ، فلا بد له من العبور والبناء على القنطرة ، وتزيينها بأصناف الزينة ، وأنت عابر عليها غاية الجهل والخذلان .