الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان تفصيل الطريق إلى تهذيب الأخلاق .

قد عرفت من قبل أن الاعتدال في الأخلاق هو صحة النفس ، والميل عن الاعتدال سقم ومرض فيها ، كما أن الاعتدال في مزاج البدن هو صحة له والميل عن الاعتدال مرض فيه فلنتخذ البدن مثالا فنقول: مثال النفس في علاجها بمحو الرذائل والأخلاق الرديئة عنها وجلب الفضائل والأخلاق الجميلة إليها مثال البدن في علاجه ، بمحو العلل عنه ، وكسب الصحة له وجلبها إليه وكما أن الغالب على أصل المزاج الاعتدال ، وإنما تعتري المعدة المضرة بعوارض الأغذية والأهوية والأحوال فكذلك كل مولود يولد معتدلا صحيح الفطرة .

وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه أي بالاعتياد والتعليم تكتسب الرذائل وكما ، أن البدن في الابتداء لا يخلق كاملا ، وإنما يكمل ويقوى بالنشو والتربية بالغذاء فكذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال وإنما تكمل بالتربية وتهذيب الأخلاق والتغذية بالعلم وكما أن البدن إن كان صحيحا فشأن الطبيب تمهيد القانون الحافظ للصحة ، وإن كان مريضا فشأنه جلب الصحة إليه فكذلك ، النفس منك إن كانت زكية طاهرة مهذبة ، فينبغي أن تسعى لحفظها ، وجلب مزيد قوة إليها واكتساب زيادة صفائها وإن كانت عديمة الكمال والصفاء ، فينبغي أن تسعى لجلب ذلك إليها وكما أن العلة المغيرة لاعتدال البدن الموجبة المرض لا تعالج إلا بضدها .فإن كانت من حرارة فبالبرودة ، وإن كانت من برودة فبالحرارة فكذلك ، الرذيلة التي هي مرض القلب علاجها بضدها فيعالج مرض الجهل بالتعلم ومرض البخل بالتسخي ومرض الكبر بالتواضع ، ومرض الشره بالكف عن المشتهى تكلفا وكما ، أنه لا بد من الاحتمال لمرارة الدواء وشدة الصبر عن المشتهيات لعلاج الأبدان المريضة فكذلك لا بد من احتمال مرارة المجاهدة ، والصبر لمداواة مرض القلب بل أولى ، فإن مرض البدن يخلص منه بالموت ومرض القلب والعياذ بالله تعالى مرض يدوم بعد الموت أبد الآباد وكما أن كل مبرد لا يصلح لعلة سببها الحرارة إلا إذا كان على حد مخصوص ، ويختلف ذلك بالشدة والضعف والدوام وعدمه ، وبالكثرة والقلة ولا بد له من معيار يعرف به مقدار النافع منه فإنه إن لم يحفظ معياره زاد الفساد فكذلك النقائض التي تعالج بها الأخلاق لا بد لها من معيار وكما أن معيار الدواء مأخوذ من معيار العلة حتى إن الطبيب لا يعالج ما لم يعرف أن العلة من حرارة أو برودة فإن كانت من حرارة فيعرف درجتها أهي ضعيفة أم قوية فإذا عرف ذلك التفت إلى أحوال البدن وأحوال الزمان وصناعة المريض وسنه وسائر أحواله ثم يعالج بحسبها .

فكذلك الشيخ المتبوع الذي يطبب نفوس المريدين ويعالج قلوب المسترشدين ينبغي أن لا يهجم عليهم بالرياضة والتكاليف في فن مخصوص وفي طريق مخصوص ، ما لم يعرف أخلاقهم وأمراضهم وكما أن الطبيب لو عالج جميع المرضى بعلاج واحد قتل أكثرهم ، فكذلك الشيخ لو أشار على المريدين بنمط واحد من الرياضة أهلكهم وأمات قلوبهم بل ينبغي أن ينظر في مرض المريد ، وفي حاله وسنه ، ومزاجه ، وما تحتمله بنيته من الرياضة ، ويبني على ذلك رياضته فإن كان المريد مبتدئا جاهلا بحدود الشرع فيعلمه أولا الطهارة والصلاة وظواهر العبادات وإن كان مشغولا بمال حرام أو مقارفا لمعصية فيأمره أولا بتركها فإذا تزين ظاهره بالعبادات وطهر عن المعاصي الظاهرة جوارحه نظر بقرائن الأحوال إلى باطنه ليتفطن لأخلاقه وأمراض قلبه ، فإن رأى معه مالا فاضلا عن قدر ضرورته أخذه منه وصرفه إلى الخيرات وفرغ قلبه منه حتى لا يلتفت إليه وإن رأى الرعونة والكبر وعزة النفس غالبة عليه فيأمره أن يخرج إلى الأسواق للكدية والسؤال فإن عزة النفس والرياسة لا تنكسر إلا بالذل ، ولا ذل أعظم من ذل السؤال فيكلفه المواظبة على ذلك مدة حتى ينكسر كبره وعز نفسه فإن الكبر من الأمراض المهلكة وكذلك الرعونة وإن رأى الغالب عليه النظافة في البدن والثياب ورأى ، قلبه مائلا إلى ذلك فرحا به ملتفتا إليه استخدمه ، في تعهد بيت الماء وتنظيفه وكنس المواضع القذرة وملازمة المطبخ ومواضع الدخان حتى تتشوش عليه رعونته في النظافة فإن الذين ينظفون ثيابهم ويزينونها ويطلبون المرقعات النظيفة والسجادات الملونة لا فرق بينهم وبين العروس التي تزين نفسها طول النهار فلا فرق بين أن يعبد الإنسان نفسه أو يعبد صنما فمهما عبد غير الله تعالى فقد حجب عن الله ، ومن راعى في ثوبه شيئا سوى كونه حلالا وطاهرا مراعاة يلتفت إليها قلبه فهو مشغول بنفسه .

ومن لطائف الرياضة إذا كان المريد لا يسخو بترك الرعونة رأسا أو بترك صفة أخرى ولم يسمح بضدها دفعة فينبغي أن ينقله من الخلق المذموم إلى خلق مذموم آخر أخف منه كالذي يغسل الدم بالبول ثم يغسل البول بالماء إذا كان الماء لا يزيل الدم كما يرغب الصبي في المكتب باللعب بالكرة والصولجان وما أشبهه ثم ينقل من اللعب إلى الزينة وفاخر الثياب ، ثم ينقل من ذلك بالترغيب في الرياسة وطلب الجاه ثم ينقل من الجاه بالترغيب في الآخرة فكذلك من لم تسمح نفسه بترك الجاه دفعة فلينقل إلى جاه أخف منه وكذلك سائر الصفات ، وكذلك إذا رأى شره الطعام غالبا عليه ألزمه الصوم وتقليل الطعام ، ثم يكلفه أن يهيئ الأطعمة اللذيذة ، ويقدمها إلى غيره وهو لا يأكل منها حتى يقوي بذلك نفسه ، فيتعود الصبر وينكسر شرهه ، وكذلك إذا رآه شابا متشوقا إلى النكاح وهو عاجز عن الطول فيأمره بالصوم وربما لا تسكن شهوته بذلك فيأمره أن يفطر ليلة على الماء دون الخبز وليلة على الخبز دون الماء ، ويمنعه اللحم والأدم رأسا حتى تذل نفسه وتنكسر شهوته ، فلا علاج في مبدأ الإرادة أنفع من الجوع وإن رأى الغضب غالبا عليه ألزمه الحلم والسكوت ، وسلط عليه من يصحبه ممن فيه سوء خلق ويلزمه خدمة من ساء خلقه حتى يمرن نفسه على الاحتمال معه .

كما حكي عن ، بعضهم أنه كان يعود نفسه الحلم ويزيل عن نفسه شدة الغضب ، فكان يستأجر من يشتمه على ملأ من الناس ويكلف نفسه الصبر ويكظم غيظه حتى صار الحلم عادة له بحيث كان يضرب به المثل وبعضهم كان يستشعر في نفسه الجبن وضعف القلب فأراد ، أن يحصل لنفسه خلق الشجاعة ، فكان يركب البحر في الشتاء عند اضطراب الأمواج وعباد الهند يعالجون الكسل عن العبادة بالقيام طول الليل على نصبة واحدة وبعض الشيوخ في ابتداء إرادته كان يكسل عن القيام ، فألزم نفسه القيام على رأسه طول الليل ليسمح بالقيام على الرجل عن طوع وعالج بعضهم حب المال بأن باع جميع ماله ورمى به في البحر إذ خاف من تفرقته على الناس رعونة الجود والرياء بالبذل .

فهذه الأمثلة تعرفك طريق معالجة القلوب وليس ، غرضنا ذكر دواء كل مرض فإن ذلك سيأتي في بقية الكتب وإنما غرضنا الآن التنبيه على أن الطريق الكلي فيه سلوك مسلك المضاد لكل ما تهواه النفس وتميل إليه ، وقد جمع الله ذلك كله في كتابه العزيز في كلمة واحدة فقال تعالى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ، والأصل المهم في المجاهدة الوفاء بالعزم فإذا عزم على ترك شهوة فقد تيسرت أسبابها ، ويكون ذلك ابتلاء من الله تعالى واختبارا فينبغي أن يصبر ويستمر فإنه إن عود نفسه ترك العزم ألفت ذلك ففسدت ، وإذا اتفق منه نقض عزم فينبغي أن يلزم نفسه عقوبة عليه كما ذكرناه في معاقبة النفس في كتاب المحاسبة والمراقبة وإذا لم يخوف النفس بعقوبة غلبته وحسنت عنده تناول الشهوة فتفسد بها الرياضة بالكلية .

التالي السابق


(بيان تفصيل الطريق إلى تهذيب الأخلاق) *

(قد عرفت من قبل أن الاعتدال في الأخلاق هو صحة في النفس ، والميل عن الاعتدال سقم ومرض فيها ، كما أن الاعتدال بين مزاج البدن هو صحة له) بأن تعتدل القوى الأربعة في أجزاء البدن ، (والميل عن الاعتدال مرض فيه) بأن تخالف إحدى القوى (فليتخذ البدن مثالا) لذلك (فنقول: مثال النفس في علاجها بمحو الرذائل والأخلاق الرديئة عنها) بالرياضة والمجاهدة (وكسب الفضائل والأخلاق الجميلة لها مثال البدن ، وعلاجه بمحو العلل عنه ، وكسب الصحة له وجلبها إليه) باستعمال ما يناسبه (فكما أن الغالب على أصل المزاج الاعتدال ، وإنما تعتري العلة المغيرة له بعوارض الأغذية والأهوية والأحوال) المختلفة (فكذلك كل مولود يولد معتدلا صحيحا على الفطرة) الإسلامية (وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه) كما ورد في الخبر

[ ص: 343 ] وتقدم ذكره قريبا (أي) يغيرانه إلى الأديان المختلفة، و (بالتعود والتعلم تكتسب الرذائل ، فكما أن البدن في الابتداء لا يخلق كاملا ، وإنما يكمل ويقوى بالنشو والتربية بالغذاء) على التدريج (فكذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال) مستعدة له، (وإنما تكمل بالتزكية وتهذيب الأخلاق) بالرياضة (والتغذية) بالعلم النافع (وكما أن البدن إن كان صحيحا كشأن الطبيب) الحاذق (تمهيد القانون الحافظ للصحة ، وإن كان مريضا فشأنه جلب الصحة إليه ، فكذا النفس منك إن كانت زكية طاهرة مهذبة الأخلاق ، فينبغي أن تسعى لحفظها وحفظ صفتها ، وجلب مزيد قوة إليها واكتساب زيادة صفاء لها) بالقانون الإلهي، (وإن كانت عديمة الكمال والصفاء ، فينبغي أن تسعى لجلب ذلك إليها) بالعلاج الموافق، وإن كانت مشحونة بالأخلاق السيئة فينبغي أن تسعى لما يزيلها منها، (وكما أن العلة المغيرة لاعتدال البدن الموجبة للمرض لا تعالج إلا بضدها) في الغالب (إن كانت من حرارة فبالبرودة ، وإن كانت من برودة فبالحرارة ، فكذا الرذيلة التي هي مرض القلب علاجها بضدها فيعالج مرض الجهل بالتعلم) ، فإن العلم والجهل متضادان متى دخل أحدهما ارتحل الآخر (ومرض البخل بالتسخي) أي: بذل المال في حقوقه (ومرض الكبر بالتواضع ، ومرض الشره بالكف عن المشتهى) ولو (تكلفنا ، فكما أنه لا بد من احتمال مرارة الدواء وشدة الصبر عن المشتهيات) النفسية (لعلاج الأبدان المريضة) حتى يصح الدواء (فكذلك لا بد من احتمال مرارة المجاهدة ، والصبر لمداواة مرض القلب) حتى ينجع، (بل) هذا (أولى ، فإن مرض البدن يخلص منه بالموت) فإنه لا يحس به بعده (ومرض القلب والعياذ بالله عذاب أليم يدوم بعد الموت أبد الآباد) فهو لا ينفك عنه بحال، (وكما أن كل مبرد لا يكفي لعلة سببها الحرارة إلا إذا كان على حد مخصوص ، ويختلف ذلك بالشدة والضعف والدوام وعدمه ، وبالكثرة والقلة ولا بد له من معيار يعرف به مقدار النافع منه) من الضار (فإن لم تحفظ معياره زاد الفساد) ورجع العلاج إلى عكسه (فكذلك النقيض الذي تعالج به الأخلاق لا بد له من عيار يعرف) به الحد المخصوص (وكما أن عيار الدواء مأخوذ من عيار العلة حتى أن الطبيب لا يعالج ما لم يعرف أن العلة من حرارة أو برودة) وذلك بتشخيص النبض أو القارورة (وإن كانت من حرارة) مثلا (فيعرف درجاتها أهي ضعيفة أم قوية) ثم يعرف سببها أمن داخل أم من خارج ، (فإذا عرف ذلك التفت معه إلى أحوال البدن) من جهة ضعفه وقوته واعتداله (وأحوال الزمان) شديد البرد أو الحر أو معتدل (وصناعة المريض) أهي خسيسة أم شريفة (وسنه) هل هو في الشبوبية أو في الكهولة أو الشيوخة (وسائر أحواله) كسؤاله هل هو غريب أو من أهل البلد (ثم يعالج بحسبها) كل ذلك بالتحري والاجتهاد حتى لا يخالف عليه المرض من طريق آخر (فكذلك الشيخ المتبوع) المعتقد (الذي يطب نفوس المريدين ويعالج قلوب المسترشدين ينبغي أن لا يهجم عليه بالرياضة والتكاليف في فن مخصوص وطريق مخصوص ، ما لم يعرف أخلاقهم وأمراضهم) وسائر أحوالهم (وكما أن الطبيب لو عالج جميع المرضى بعلاج واحد قتل أكثرهم ، فكذلك الشيخ لو أشار على المريدين بنمط واحد من الرياضة

[ ص: 344 ] أهلكهم وأمات قلوبهم) ولم ينجع فيهم الإرشاد (بل ينبغي أن ينظر في مرض المريد ، وفي حاله ، وفي سنه ومزاجه ، وما تحتمل بنيته من الرياضة ، ويبني عليها رياضته) فرب قوي البدن في عنفوان الشبوبية يحتمل من الرياضة ما لا يحتمله ضعيف البدن نحيفه ، وكذا الشيخ الفاني (فإن كان المريد مبتدئا جاهلا بحدود الشرع فيعلمه أولا) أمور دينه مثل (الطهارة والصلاة وظواهر العبادات) بوجه يوصل إلى ذهنه ، فإذا ترشح بمعرفة ذلك ينقله إلى ما يناسب له، (وإن كان) مع معرفته لظواهر العبادات (مشغولا بمال حرام) وصل إليه من تجارة فاسدة أو من ميراث بشبهة (أو مقارنا لمعصية) ظاهرة أو باطنة (فيأمره أولا بترك ذلك) رأسا، (فإذا تزين بالعبادات ظاهره وطهرت عن المعاصي الظاهرة جوارحه نظر بقرائن الأحوال إلى باطنه ليتفطن لأخلاقه وأمراض قلبه ، فإن رأى معه مالا فاضلا عن قدر ضرورته) إن كان منفردا وإلا فعن قدر ضرورة عياله إن كان ذا عيال ، (أخذه منه وصرفه في الخيرات) أو أمره بأن يصرفه إلى جهات الخيرات (وفرغ قلبه منه) فإنه أكبر شاغل لنفسه (حتى لا يلتفت إليه) ولا يتعلق به قلبه (وإن رأى الرعونة والكبر وعزة النفس غالبة عليه فيأمره بأن يخرج إلى السوق للكدية) أي: الاستجداء (والسؤال) من الناس ، وذلك في وقت مخصوص، (فإن عز الرياسة لا يكسر إلا بالذل ، ولا ذل أعظم من السؤال) ولا أثقل منه ، وهو أحد الثلاثة التي تورث الذل، والاثنان الدين والبنت ، قالوا: ثلاث تورث الذل: الدين ولو درهما ، والبنت ولو مريم ، والسؤال ولو أين الطريق؟ (فيكلفه المواظبة على ذلك مدة حتى ينكسر كبره وعزه) وأنفته؛ (فإن الكبر من الأمراض المهلكة وكذا الرعونة) في النفس، ولا ينفع السلوك للمريد مع ملابستها .

(وإن رأى الغالب عليه النظافة في البدن والثياب ، ورأض قلبه مائلا إلى ذلك فرحا به ملفتا إليه ، فيستخدمه في تعهد بيت الماء وتنظيفه وكنس المواضع القذرة وملازمة المطبخ ومواضع الدخان حتى تتشوش عليه رعونته في النظافة) ولما كان الأمر كذلك ، وغلبت هذه النفوس على المريدين ، رتب بعض مشايخ الطريق كل مريد في خدمة معينة في زاوية الشيخ ، فمنهم من يتعاهد خدمة بيت الماء ، ومنهم من يتعاهد إخراج الماء من البئر لملء الميضأة ، ومنهم من يتعاهد صب الماء على أيدي الفقراء ، ومنهم من يتعاهد لكنس المحل ورشه ، ومنهم من يتعاهد لخدمة المريدين في الزاوية ، ومنهم من يتعاهد خدمة المطبخ وإصلاح ما تيسر من طعام ، ومنهم من يتعاهد للكدية ، فما فتح له منها يفرق على أهل الزاوية ، فهذه الوظائف ما رتبوها إلا لتمرين النفوس الصعبة وتهذيب الأخلاق ، (فإن الذين ينظفون ثيابهم ويزينونها ويطلبون المرقعات الرفيعة والسجادات الملونة لا فرق بينهم وبين العروس التي تزين نفسها طول النهار) لأجل زوجها ، ليس لها همة إلا في ذلك (ولا فرق بين أن يعبد الإنسان نفسه أو يعبد صنما) ، فمن تعلق بشيء والتفت إليه بقلبه فقد صار عابدا له (فمهما عبد غير الله فقد صار محجوبا عن الله ، ومن راعى في ثوبه شيئا غير كونه حلالا أو طاهرا مراعاة يلتفت إليها قلبه فهو مشغول بنفسه) محجوب عن ربه (ومن لطائف الرياضة أن النفس إذا كانت لا تسخو) أي: لا تسمح (بترك الرعونة رأسا أو بترك صفة أخرى ولم تسمح بضدها دفعة فينبغي أن تنتقل من الخلق المذموم إلى مذموم آخر أخف منه) في الذم، وهذا (كالذي يغسل الدم بالبول) أولا (ثم يغسل البول بالماء إذا كان الماء لا يزيل الدم) وقد حصل التطهير ، ولكن بهذا النقل، (ولذلك يرغب الصبي في المكتب باللعب بالكرة والصولجان وما أشبهه) من الملاعب (ثم ينقل من اللعب إلى الزينة

[ ص: 345 ] وفاخر الثياب ، ثم ينقل من ذلك إلى الترغيب في الرياسة وطلب الجاه) وكل ذلك من المذام الشرعية (ثم ينقل عن ذلك بالترغيب في الآخرة) تدريجا ، ولو كلف من أول وهلة بالترغيب في أمور الآخرة لم يتيسر عليه، (فكذلك من لم تسمح نفسه بترك الجاه) والرياسة (دفعة فلينقل إلى جاه أخف منه) ثم ينقل إلى تركه رأسا (وكذلك سائر الصفات ، وكذلك إن رأى شره الطعام غالبا عليه ألزمه الصوم وتقليل الطعام أولا ، ثم كلفه أن يهيئ الأطعمة اللذيذة ، ويقدمها إلى غيره ولا يأكل هو منها حتى تقوى بذلك نفسه ، فيتعود الصبر وينكسر شرهه ، وكذلك إذا رآه شابا متشوقا إلى النكاح) شبقا كثير الشهوة (وهو عاجز عن النكاح فيأمره بالصوم) لما ورد في الخبر: من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، ومن لم يجد فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء (وربما لا يسكن ذلك شهوته فيأمره بأن يفطر ليلة على الماء دون الخبز وليلة على الخبز دون الماء ، ويمنعه اللحم والأدم رأسا حتى تتذلل نفسه وتنكسر شهوته ، فلا علاج في مبادئ الإرادة أنفع من الجوع) ؛ لأنه قاطع كل شهوة (وإن رأى الغضب غالبا عليه ألزمه الحلم والسكوت ، وسلط عليه من يصحبه ممن فيه سوء خلق) وشراسة (ويأمره بخدمة من ساء خلقه ومراعاته حتى تمرن نفسه على الاحتمال ، فقد كان بعضهم يعود نفسه الحلم ويزيل عن نفسه شدة الغضب ، فكان يستأجر من يشتمه على ملأ من الناس) وبين يدي من يعظمه (ويكلف نفسه الحلم والصبر) على ذلك (ويكظم غيظه حتى صار الحلم عادة له بحيث كان يضرب به المثل) في الحلم ، وقد ورد في الأخبار: إنما الحلم بالتحلم.

(وكان بعضهم يستشعر في نفسه الجبن وضعف القلب ، وأراد أن يحصل لنفسه خلق الشجاعة ، فكان يركب البحر في الشتاء عند اضطراب الأمواج) ليسكن روعه عن الاضطراب ، ويتعود عليه .

(وعباد الهند) من البراهمة والجوكية (يعالجون الكسل عن العبادة بالقيام طول ليله على نصبة واحدة) ومنهم من اختار أن يقف على رجل واحدة طول ليله ، ومنهم من يعود نفسه على حبس أنفاسه ساعات متعددة .

(وبعض الشيوخ في ابتداء إرادته كانت تكسل نفسه عن القيام ، فألزم نفسه القيام على رأسه طول الليل لتسمح بالقيام على الرجل عن طوع) ولهم في ذلك مجاهدات غريبة تستغرب ، وقصدهم بذلك إماتة النفوس وتعويدها على الطاعات بانشراح وسماح (وعالج بعضهم حب المال بأن باع جميع ماله ورماه في البحر إذ خاف من تفرقته على الناس رعونة الجود ورياء البذل) ، وقد اعترض على المصنف في تقرير هذه الحكايات عنهم وتسليمها لهم بأن ذلك تضييع للمال ومخالف للشرع ، وقد أشرنا بجواب ذلك في مقدمة كتاب العلم فراجعه .

(فهذه الأمثلة تعلمك طريق معالجة القلوب ، فليس غرضنا) هنا (ذكر دواء كل مرض) بالخصوص (فإن ذلك سيأتي في بقية الكتب) إن شاء الله تعالى (وإنما الغرض الآن التنبيه على أن الطريق الكلي فيه سلوك مسلك المضادة لكل ما تهواه النفس وتميل إليه ، وقد جمع الله تعالى جميع ذلك في كلمة واحدة فقال:) وأما من خاف مقام ربه ( ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ، والأصل المهم في المجاهدة الوفاء بالعزم) أي: بأن يفي بما عزم عليه ولا ينقضه (فإذا عزم على ترك شهوة فقد تتيسر أسبابها ، ويكون ذلك من الله ابتلاء واختبارا) أي: امتحانا له ليعلم هل يفي أم لا (فينبغي أن يصبر) على ما عزم عليه (ويستمر فإنه إن عود

[ ص: 346 ] نفسه نقض العزم ألفت ذلك) وأنست به (وفسدت ، وإذا اتفق منه نقض عزم فينبغي أن يلزم نفسه عقوبة عليه) مما يناسب حاله ويطيق عليه (كما ذكرناه في معاقبة النفس في كتاب المحاسبة والمراقبة) كما سيأتي إن شاء الله تعالى (وإذا لم يخوف نفسه بعقوبة غلبته وحسنت عنده تناول الشهوة وفسدت بها الرياضة بالكلية) ولم يحصل له من رياضته ثمرة غير إتعاب البدن وتضييع الوقت .




الخدمات العلمية