الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقد كان بين أحمد بن حنبل ويحيى بن معين صحبة طويلة فهجره أحمد إذ سمعه يقول إني لا أسأل أحدا شيئا ، ولو أعطاني الشيطان شيئا لأكلته حتى اعتذر يحيى وقال : كنت أمزح فقال . : تمزح بالدين ، أما علمت أن الأكل من الدين قدمه الله تعالى على العمل الصالح فقال كلوا من الطيبات واعملوا صالحا وفي الخبر أنه : مكتوب في التوراة : من لم يبال من أين مطعمه ، لم يبال الله من أي أبواب النيران أدخله وعن علي رضي الله عنه أنه لم يأكل بعد قد قتل عثمان ، ونهب الدار طعاما إلا مختوما حذرا من الشبهة .

واجتمع الفضيل بن عياض وابن عيينة وابن المبارك عند وهيب بن الورد بمكة فذكروا الرطب ، فقال وهيب : هو من أحب الطعام إلي إلا أني لا آكله لاختلاط رطب مكة ببساتين زبيدة وغيرها فقال له ابن المبارك : إن نظرت في مثل هذا ضاق عليك الخبز .

قال : وما سببه قال إن أصول الضياع قد اختلط بالصوافي فغشي على وهيب فقال سفيان : قتلت الرجل . فقال ابن المبارك : ما أردت إلا أن أهون عليه ، فلما أفاق قال : لله علي أن لا آكل خبزا أبدا حتى ألقاه .

قال فكان يشرب اللبن قال فأتته أمه بلبن ، فسألها فقالت : هو من شاة بني فلان ، فسأل عن ثمنها وأنه من أين كان لهم ، فذكرت فلما أدناه من فيه قال : بقي أنها من أين كانت ترعى ؟ فسكتت فلم يشرب ; لأنها كانت ترعى من موضع فيه حق للمسلمين فقالت أمه : اشرب فإن الله يغفر لك ، فقال : ما أحب أن يغفر لي وقد شربته ، فأنال مغفرته بمعصيته .

وكان بشر الحافي رحمه الله من الورعين فقيل له : من أين تأكل فقال من حيث تأكلون ، ولكن ليس من يأكل وهو يبكي كمن يأكل وهو يضحك .

وقال : يد أقصر من يد ، ولقمة أصغر من لقمة وهكذا كانوا يحترزون من الشبهات .

التالي السابق


(وقد كان بين) الإمامين أبي عبد الله (أحمد بن حنبل ويحيى بن معين) بن عون أبي زكريا البغدادي، ثقة حافظ مشهور، إمام الجرح والتعديل، روى له الجماعة (صحبة طويلة فهجره أحمد إذ سمعه يقول) ، ولفظ القوت: وكان يحيى بن معين ، قد صحب أحمد بن حنبل في السفر سنين، ولم يأكل معه لأجل كلمة بلغته، وهو أنه قال: (إني لا أسأل أحدا شيئا، ولو أعطاني السلطان شيئا لأكلته) ، وفي رواية: لو حمل إلي السلطان شيئا لأخذته فهجره أحمد (حتى اعتذر) إليه، ( يحيى وقال:) أنا (كنت أمزح. قال: تمزح بالدين، أما علمت أن الأكل من الدين قدمه الله) عز وجل (على العمل الصالح) ، فقال: ( كلوا من الطيبات واعملوا صالحا ) ، هكذا هو في القوت [ ص: 13 ] وتقدم بعضه في أول كتاب الكسب، (وفي الخبر: إنه مكتوب في التوراة: من لم يبال من أين مطعمه، لم يبال الله من أي أبواب النار أدخله ) ، كذا في القوت، وتقدم قريبا، وأشرت هناك أنه هكذا في التوراة، (و) روي (عن علي رضي الله عنه أنه لم يأكل بعد قتل عثمان رضي الله عنه، ونهب الدار طعاما إلا مختوما) عليه (حذرا من الشبهة) ، أي: خوفا منها، وروي في خبر العامل الذي أراد على أن يستعمله على الصدقات، قال: فدعا ببطة مختومة ظننت فيها جوهرا أو تبرا، فنفى ختمها، فإذا بسويق شعير فنشره بين يديه، وقال: كل من طعامي، فقلت: أتختم عليه يا أمير المؤمنين، فقال: نعم، هذا شيء اصطفيته لنفسي، وأخاف أن يخلط فيه ما ليس منه ، نقله صاحب القوت قال: وروى جماعة من الصحابة: ما شبعوا من الطعام من يوم قتل عثمان رضي الله عنه لاختلاط أموال أهل المدينة بنهب الدار منهم عبد الله بن عمر وسعد ، وأسامة بن زيد رضي الله عنهم ، قلت: وسيأتي خبر هذا العامل بإسناده، (و) يروى أنه (اجتمع فضيل بن عياض و) سفيان (بن عيينة و) عبد الله (ابن المبارك عند وهب بن الورد ) ، تقدمت تراجمهم (فذكروا الرطب، فقال وهيب : هو أحب الطعام إلي إلا أني لا آكله لاختلاط رطب مكة ببساتين زبيدة ) ، هي أم الخلفاء، (وغيرها) وكانت زبيدة قد اشترت عدة بساتين بمكة وأوقفتها في سبيل الله تعالى، ولفظ القوت: بهذه البساتين التي اشتراها هؤلاء يعني زبيدة وأشباهها، (فقال ابن المبارك : إن نظرت في مثل هذا ضاق عليك الخبز) أي: أكله (فقال: وما سببه فقال) ابن المبارك : (إن أصول الضياع قد اختلطت بالضواحي) ، أي: القطائع. ولفظ القوت: نظرت في أصول الضياع بمصر ، فإذا قد اختلطت بالصوافي وبإزائه في الحاشية ما نصه: الصوافي الموارث التي لا وارث لها غير السلطان، فقال: (فغشي على وهيب) لما سمع هذا الكلام (فقال سفيان: قتلت الرجل. فقال ابن المبارك: ما أردت إلا أن أهون عليه، فلما أفاق) وهيب (قال: لله علي عهد أن لا آكل خبزا أبدا حتى ألقاه) .

وهذا قد أخرجه أبو نعيم في الحلية، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، والحسين بن محمد قالا: حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن إدريس ، حدثنا محمد بن موسى القاساني ، حدثنا زهير بن عباد قال: كان فضيل بن عياض ، ووهيب بن الورد ، وعبد الله بن المبارك جلوسا، فذكروا الرطب فقال وهيب: قد جاء الرطب، فقال ابن المبارك يرحمك الله هذا آخره، أولم تأكله؟ قال: لا، قال: ولم؟ قال وهيب : بلغني أن عامة أجنة مكة من الضواحي والقطائع، فكرهتها؟ فقال ابن المبارك : يرحمك الله أوليس قد رخص في الشراء من السوق إذا لم تعرف الضواحي والقطائع منه، وإلا ضاق على الناس خبزهم؟ أوليس عامة ما يأتي من قمح مصر إنما هو من الضواحي والقطائع؟ ولا أحسبك تستغني عن القمح فيسهل عليك، قال: فصعق فقال فضيل لعبد الله : ما صنعت بالرجل؟ فقال ابن المبارك : ما علمت أن كل هذا الخوف قد أعطيه، فلما أفاق وهيب قال: يا ابن المبارك دعني من ترخيصك لا جرم لا آكل من القمح إلا كما يأكل المضطر من الميتة، فزعموا أنه نحل جسمه حتى مات هزلا .

حدثنا أبو محمد بن حيان ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم ، حدثنا محمد بن عبد الوهاب فيما كتب إلي، قال علي بن هشام : قال وهيب لابن المبارك : غلامك يتجر ببغداد ، قال: لا يبايعهم، قال: أليس هو؟ ثم قال علي بن هشام قال وهيب لابن المبارك : فكيف تصنع بمصر وهم إخوان؟ قال: فوالله لا أذوق من طعام مصر أبدا، فلم يذق منه حتى مات، وكان يتعلل بثمر ونحوه حتى مات . اهـ .

(فكان وهيب يشرب اللبن فأتته امرأة) ، ولفظ القوت: أمه (بلبن، فسألها) من أين هو؟ (فقالت: هو من شاة بني فلان، فسأل عنها) ، أي: تلك الشاة، (وأنه من أين لهم، فذكرت) ، ولفظ القوت: بعد قوله: بني فلان قال: ومن أين لهم ثمنها؟ قالت: من كذا وكذا، فرضيه، (فلما أدناه من فيه قال:) قد (بقي) شيء (إنها من أين كانت ترعى؟ فسكتت) فقال: أخبريني، فقالت: هي ترعى مع غنم لابن عبد الهاشمي أمير مكة في الحمى، (فلم يشربه; لأنها كانت ترعى في موضع للمسلمين فيه حق) ، لا يحل لي أن أشربه دونهم فهم شركائي فيه، (فقالت له أمه: اشرب فإن الله يغفر لك، فقال: ما أحب أن يغفر لي وقد شربته، فأنال مغفرة بمعصية) ، أخرجه أبو نعيم في الحلية قال: حدثنا أبو محمد بن حيان ، حدثنا أحمد بن الحسين ، حدثنا أحمد بن إبراهيم ، حدثني أبو [ ص: 14 ] عبد الله أحمد بن نصر المروزي قال: سمعت علي بن أبي بكر الإسفرايني قال: اشتهى وهيب لبنا فجاءته خالته به من شاة لآل عيسى بن موسى قال: فسألها عنه، فأخبرته، فأبى أن يأكله، فقالت له: كل، فأبى فعاودته وقالت له: إني أرجو إن أكلته أن يغفر الله لك، أي: باتباع شهوتي، قال: فقال: ما أحب إن أكلته وأن الله غفر لي، فقالت: لم؟ قال: إني أكره أن أنال مغفرته بمعصيته، (و) قد (كان بشر) بن الحارث أبو نصر (الحافي) رحمه الله تعالى تقدمت ترجمته (من الورعين) يسأل عن الحلال فيعززه، (فقيل له: من أين تأكل) يا أبا نصر ؟ (فقال) : من (حيث تأكلون، ولكن ليس من يأكل و) هو (يبكي كمن يأكل) وهو (يضحك، وقال:) مرة في رواية أخرى عنه، ولكن (يد أقصر من يد، ولقمة أصغر من لقمة) ، نقله صاحب القوت .

(فهكذا كانوا يتحرزون عن الشبهات رضي الله عنهم) ، وقد بقي هنا مما يتعلق بالباب بعض ما لم يذكره المصنف، وهو مذكور في القوت .

فمن ذلك قال شعيب بن حرب : لا تحقر دانقا من حلال تكسبه تنفقه على نفسك وعيالك، وعلى أخ من إخوانك، فلعله لا يصل إلى جوفك أو جوف غيرك حتى يغفر لك، ويقال: من أكل حلالا وعمل في سنة فهو من أبدال هذه الأمة، وقال يوسف بن أسباط لشعيب بن حرب : أشعرت أن الصلاة جماعة سنة، وأن كسب الحلال فريضة؟ قال: نعم، وقد كان إبراهيم بن أدهم يعمل هو وإخوانه في الحصاد في شهر رمضان، وكان يقول لهم: انصحوا في عملكم بالنهار حتى تأكلوا حلالا ولا تصلوا بالليل، فإن لكم ثواب الصلاة في جماعة وأجر المصلين بالليل .

وقال بعض السلف: أفضل الأشياء ثلاثة: عمل في سنة ودرهم من حلال، وصلاة في جماعة; وقال سهل : من لم يكن مطعمه من حلال لم يكشف الحجاب عن قلبه ولم ترفع العقوبة عنه، وما يبالي بصلاته وصيامه إلا أن يعفو الله عنه، وقال: إنما حرموا مشاهدة الملكوت وحجبوا عن الوصول بشيئين: سوء الطعمة وإيذاء الخلق ، وقال مرة: بالدعوى، وكان يقول بعد الثلاثمائة سنة: لا تصح التوبة لأحد. قيل: ولم؟ قال: يفسد الخبز وهم لا يصبرون عنه، وقال بعض العلماء: الدعاء محجوب عن السماء بفساد الطعمة. وقال جماعة من السلف: الجهاد عشرة أجزاء، تسعة في طلب الحال، وقال علي بن الفضيل لأبيه يا أبت إن الحلال قليل وعزيز، فقال: يا بني، وإن عز فإن قليله عند الله كثير ، وقال ابن المبارك : من صلى وفي بطنه طعام من حرام أو على ظهره سلك من حرام لم تقبل صلاته ، وقال يوسف بن أسباط وسفيان الثوري لا طاعة للوالدين في الشبهة ، وقال أبو سليمان الدراني وغيره من العلماء: لا يفلح من استحيا من طلب الحلال، وفي لفظ آخر: من أنف من كسب الحلال وفي وجه التفسير في قوله تعالى: فإن له معيشة ضنكا قيل: هو أكل الحرام كما قيل في قوله تعالى: فلنحيينه حياة طيبة قيل: أكل الحلال ورزقه، وكان بشر إذا ذكر الإمام أحمد يقول: قد فضل علي بثلاث، وذكر أنه يطلب الحلال لنفسه ولغيره، وأنا أطلبه لنفسي .




الخدمات العلمية