الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسدون الكوى والثقب في الحيطان لئلا تطلع النسوان إلى الرجال .

ورأى معاذ امرأته تطلع في الكوة فضربها ، ورأى امرأته قد دفعت إلى غلامه تفاحة قد أكلت منها ، فضربها .

وقال عمر رضي الله عنه : أعروا النساء يلزمن الحجال وإنما قال ذلك لأنهن لا يرغبن في الخروج في الهيئة الرثة .

وقال عودوا نساءكم لا وكان قد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء في حضور المسجد .

والصواب الآن المنع إلا العجائز بل استصوب ذلك في زمان الصحابة حتى قالت عائشة رضي الله عنها : لو علم النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدثت النساء بعده لمنعهن من الخروج .

ولما قال ابن
عمر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تمنعوا : إماء الله مساجد الله ، فقال بعض ولده بلى والله لنمنعهن ، فضربه ، وغضب عليه ، وقال : تسمعني أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تمنعوا فتقول بلى .

وإنما استجرأ على المخالفة لعلمه بتغير الزمان وإنما غضب عليه لإطلاقه اللفظ بالمخالفة ظاهرا من غير إظهار العذر وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذن لهن في الأعياد خاصة أن يخرجن .

ولكن لا يخرجن إلا برضا أزواجهن والخروج الآن مباح للمرأة العفيفة برضا زوجها ، ولكن القعود أسلم وينبغي أن لا تخرج إلا لمهم فإن الخروج للنظارات والأمور التي ليست مهمة تقدح ، في المروءة وربما تفضي إلى الفساد فإذا خرجت فينبغي أن تغض بصرها عن الرجال ولسنا نقول إن وجه الرجل في حقها عورة ، كوجه المرأة في حقه ، بل هو كوجه الصبي الأمرد في حق الرجل ، فيحرم النظر عند خوف الفتنة فقط ، فإن لم تكن فتنة ، فلا إذ لم يزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه والنساء ، يخرجن منتقبات ولو كان وجوه الرجال عورة في حق النساء لأمروا بالتنقب أو منعن من الخروج إلا لضرورة .

التالي السابق


(وكان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسدون الثقب) بضم ففتح، جمع الثقبة، كغرفة وغرف، وهو: الخرق في الحائط لا منفذ له (والكوى) جمع كوة، كقوة وقوى، وهي بمعنى الثقبة (في الحيطان) المشرفة على الأسواق، وممر الناس; (لئلا تطلع النسوان على الرجال) نقله صاحب القوت .

(ورأى معاذ) بن جبل، -رضي الله عنه- (امرأته تطلع في الكوة) ولفظ القوت: في كوة في الجدار (فضربها، ورأى) أيضا (امرأته) قد (أدنت إلى غلام لها) وفي القوت: له (تفاحة قد أكلت بعضها، فضربها) وكل هذا من الغيرة الإيمانية، وضربه إياها لأجل التأديب. (وقال عمر رضى الله عنه: أعروا النساء) بفتح الهمزة، وسكون العين المهملة، وضم الراء، أي: جردوهن ثياب الزينة، والتفاخر، واقتصروا على ما يقيهن الحر والبرد، فإنكم إن فعلتم ذلك (يلزمن الحجال) جمع حجلة محركة، بيت كالقبة، يستر بالثياب، له أزرار كبار، يعني: لا تلبسوهن الثياب الفاخرة، فيطلبن البروز، فيترتب عليه مفاسد شتى، مما ينغص عيش الزوج معها، وفي رواية: الحجاب، بدل الحجال، والمعنى متقارب، ثم إن هذا القول عن عمر هكذا روي موقوفا عليه; ولذلك لم يتعرض له العراقي; لأنه ليس على شرطه، وقد روي هذا مرفوعا، أخرجه الطبراني [ ص: 362 ] فى الكبير، عن بكر بن سهل الدمياطي، عن شعيب بن يحيى، عن يحيى بن أيوب بن عمرو بن الحارث، عن مجمع بن كعب، عن مسلمة، عن مخلد، رضي الله عنه، رفعه فذكره، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات، وقال: شعيب غير معروف، وقال إبراهيم الحربي: لا أصل لهذا الحديث، وتبعه على ذلك السيوطي في اللآلئ المصنوعة، غير متعقب له، ولعله لم يطلع على تعقب الحافظ ابن حجر على ابن الجوزي، بأن ابن عساكر خرجه من وجه آخر في أماليه وحسنه، قال: وبكر بن سهل وإن ضعفه جمع لكنه لم ينفرد به كما ادعاه ابن الجوزي، فالحديث إلى الحسن أقرب; (وإنما قال ذلك لأنهن لا يرغبن في الخروج) عن منازلهن (في الهيئة الرثة) وهي ثياب المهنة والبذلة، فإذا لبسن الثياب الفاخرة حركهن إبليس للخروج; ليرين غيرهن، وهذه الصفة مركوزة في طباعهن في سائر البلاد .

(وقال) أيضا رضي الله عنه: (عودوا نساءكم) كلمة (لا) . كذا في القوت. وعند العسكري في الأمثال، من حديث عون بن موسى، قال: قال معاوية: عودوا نساءكم لا فإنها ضعيفة، إن أطعتها أهلكتك. نقله السخاوي في المقاصد .

(وكان قد أذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للنساء في حضور المساجد) . قال العراقي: متفق عليه، من حديث ابن عمر: ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد. اهـ. قلت: وكذلك رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي (والصواب الآن) يعني: في زمان المصنف (المنع) من الخروج ليلا إلى المساجد (إلا العجائز) جمع عجوز، وهي المرأة المسنة، فإنه لا بأس بخروجها; للأمن من الفتنة (بل استصوب ذلك في زمان الصحابة) رضوان الله عليهم (حتى قالت عائشة رضي الله عنها: لو علم النبي -صلى الله عليه وسلم- ما أحدث النساء لمنعهن من الخروج) . قال العراقي: متفق عليه، قال البخاري: لمنعهن المساجد. وقال مسلم: المسجد. (وقال عمر رضي الله عنه: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، فقال بعض ولده) أي: ولد عمر (بل نمنعهن، فضربه، وغضب عليه، وقال: تسمعني أقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا تمنعوا فتقول بلى) ؟! قال العراقي: متفق عليه، اهـ. قلت: ورواه كذلك أحمد، وابن حبان، وأخرجه ابن جرير في تهذيبه، عن عمر بن الخطاب، ورواه مسلم عن ابن عمر، بلفظ: لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنكم. وعن ابن ماجه: لا تمنعوا إماء الله أن يصلين في المسجد. ورواه أحمد، وأبو داود، والطبراني، والحاكم، والبيهقي، بلفظ: لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خير لهن. وفي الباب عن أبي هريرة: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن لا تخرجوهن تفلات. رواه أحمد، وأبو داود، والبيهقي، وابن جرير في التهذيب، ورواه أحمد أيضا، وابن منيع، وابن حبان، والطبراني، والضياء، من حديث زيد بن خالد (وإنما استجرأ) بعض ولد عمر (على المخالفة) لما سمعه من أبيه مرفوعا; (لعلمه بتغير الزمان) ولعله بلغه قول عائشة السابق، فوافق رأيه رأيها (وإنما غضب عليه) عمر; (لإطلاقه اللفظ بالمخالفة ظاهرا من غير إظهار العذر) وهو بعيد من الأدب; ولذا ما أنكر على قول عائشة (وكذلك كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أذن لهن في الأعياد خاصة أن يخرجن) قال العراقي: متفق عليه، من حديث أم عطية، اهـ. (ولكن لا يخرجوا إلا بإذن من أزواجهن) إذا أذن لهن في الخروج (والخروج الآن أيضا مباح للمرأة العفيفة) الدينة (برضا زوجها، ولكن القعود) في قعر بيتها (أسلم) لها من الخروج، ولو رضي الزوج بذلك، كما في حديث عمر السابق: وبيوتهن خير لهن.

(وينبغي أن لا تخرج) من بيتها (إلا لمهم) شديد، وأمر يوجبه; (لأن الخروج للنظارات) أي: للفرج، والنزهات (والأمور التي ليست مهمة، يقدح في المروءة) ويسقط مقامها (وربما يفضي) ذلك (إلى الفساد) العاجل، أو الآجل، كما هو مشاهد الآن وقبل الآن (فإذا خرجت) لمهم (فينبغي أن) تخرج تفلة، غير مظهرة للزينة، ولا لابسة ثياب التباهي، ولا مختالة في مشيها، وعليها أن (تغض بصرها عن الرجال) ولا تزاحمهم في السكك (ولسنا نقول إن وجه الرجل في حقها عورة، كوجه المرأة في حقه، بل هو كوجه الصبي الأمرد) وهو: الذي لا نبات بعارضيه (في حق الرجل، فيحرم النظر) إليه (عند خوف الفتنة) إذا كان بشهوة (فقط، فإن لم تكن) هناك شهوة، ولا خاف (فتنة، فلا) يحرم النظر إليه، وهذا اختيار المصنف، وإن خاف من النظر [ ص: 364 ] الوقوع في الشهوة فوجهان، قال أكثرهم: يحرم تحرزا من الفتنة، وقال صاحب التقريب، واختاره الإمام، أنه لا يحرم أيضا (إذ لم تزل الرجال مكشوفين الوجوه، و) لم تزل (النساء يخرجن متنقبات) أي: جاعلات النقاب على وجوههن (ولو كان وجوه الرجال عورة في حق النساء لأمروا بالتنقب) والاحتجاب كالنساء (أو منعهن من الخروج إلا لضرورة) ويروى أن وفد عبد القيس قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفيهم غلام حسن الوجه، فأجلسه من ورائه، وقال: إنما أخشى ما أصاب أخي داود، وكان ذلك بمرأى من الحاضرين، فدل على أنه يحرم، ولاتفاق المسلمين على أنهم ما منعوا من المساجد، والمحافل، والأسواق، والخلو بينه وبين الأجنبي في المكاتب، وتعليم الصنعة، وغير ذلك، وقد تقدم هذا البحث أيضا في مسألة النظر إلى وجه الزوجة .




الخدمات العلمية