الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الخامس : أن يقدم من الطعام قدر الكفاية ، فإن التقليل عن الكفاية نقص في المروءة والزيادة عليه تصنع ومراءاة لا سيما إذا كانت نفسه لا تسمح بأن يأكلوا الكل إلا أن يقدم الكثير وهو طيب النفس لو أخذوا الجميع ونوى أن يتبرك بفضلة طعامهم ، إذ في الحديث لا يحاسب عليه .

أحضر إبراهيم بن أدهم رحمه الله طعاما كثيرا على مائدته فقال له سفيان : يا أبا إسحاق أما تخاف أن يكون هذا سرفا ؟ فقال إبراهيم : ليس في الطعام سرف .

فإن لم تكن هذه النية فالتكثير تكلف .

قال ابن مسعود رضي الله عنه : نهينا أن نجيب دعوة من يباهي بطعامه وكره جماعة من الصحابة أكل طعام المباهاة .

ومن ذلك
كان لا يرفع من بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلة طعام قط لأنهم كانوا لا يقدمون إلا قدر الحاجة ولا يأكلون تمام الشبع .

وينبغي أن يعزل أولا نصيب أهل البيت حتى لا تكون أعينهم طامحة إلى رجوع شيء منه فلعله لا يرجع فتضيق صدورهم وتنطلق في الضيفان ألسنتهم ، ويكون قد أطعم الضيفان ما يتبعه كراهية قوم ، وذلك خيانة في حقهم .

وما بقي من الأطعمة فليس للضيفان أخذه وهو الذي تسميه الصوفية الزلة إلا إذا صرح صاحب الطعام بالإذن فيه عن قلب راض أو علم ذلك بقرينة حاله وأنه يفرح به فإن كان يظن كراهيته .

فلا ينبغي أن يؤخذ ، وإذا علم رضاه فينبغي مراعاة العدل والنصفة مع الرفقاء فلا ينبغي أن يأخذ الواحد إلا ما يخصه أو ما يرضى به رفيقه عن طوع لا عن حياء .

آداب الانصراف .

التالي السابق


(الخامس: أن يقدم من الطعام) إليهم (قدر) الحاجة إليه و (الكفاية، فإن التقليل عن الكفاية نقص في المروءة والزيادة عليه تصنع ومراياة) ولفظ " القوت ": ولا ينبغي أن يقدم [ ص: 259 ] إلا ما يجب أن يأكلوه من كل شيء، ومقدار والكفاية من الأكول، فيجمع بين السنة والفضيلة، وقال في موضع آخر: وأكره أن يقدم الطعام إلا ما يريد أن يأكل ولا يترك منه شيء ولا يستثني هو ولا أهل البيت في أنفسهم رجوع شيء منه، وإلا كان ما يقدمه مما ينوي رجوع بعضه أو لا يحب أكل كله تصنعا ومباهاة، اهـ .

(لا سيما إذا كان لا تسمح نفسه بأن يأكلوا الكل) مما أحضره (إلا أن يقدم الكثير) بنية حسنة، (وهو طيب النفس) لا يستثني رجوع شيء منه (لو أخذوا الجميع) منه (ونوى أن يتبرك بفضلة طعامهم، إذ في الحديث أنه لا يحاسب عليه) كما تقدم قريبا .

يحكى أنه (أحضر) أبو إسحاق (إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى طعاما كثيرا على مائدته) وكان قد دعا سفيان الثوري والأوزاعي في جماعة من الأصحاب (فقال له سفيان: يا أبا إسحاق أما تخاف أن يكون هذا إسرافا ؟ فقال إبراهيم: ليس في الطعام إسراف) نقله صاحب "القوت " بلفظ: وروينا أن سفيان الثوري دعا إبراهيم بن أدهم وأصحابه إلى طعام فقصروا في الأكل، فلما رفع الطعام قال له الثوري: إنك قصرت في الأكل، فقال إبراهيم: لأنك قصرت في الطعام فقصرنا في الأكل، قال: ودعا إبراهيم الثوري وأصحابه على طعام، فأكثر منه فقال له سفيان: يا أبا إسحاق، أما تخاف أن يكون هذا إسرافا ؟ فقال إبراهيم: ليس في الطعام سرف. وفي رواية أخرى زيادة: إنما الإسراف في الأثاث واللباس. وقال: وهذا روي عن سيرة السلف (فإن لم تكن هذه النية فالتكثير تكلف) ومباهاة، وقد نهي عن كل منهما، أما التكلف فقد تقدم ما ورد فيه، وأما المباهاة فقد (قال ابن مسعود - رضي الله عنه-: نهينا أن نجيب دعوة من يباهي بطعامه) رواه صاحب "القوت " أي: يفاخر بطعامه أقرانه ليكون أكثرهم إطعاما، ويرى منه ذلك، (و) قد كره جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم (أكل طعام المباهاة) والمباراة، فإن علم بذلك من قدم إليه ذلك الطعام لا يستحب له في الورع أن يأكل منه لأن المأكول إذا قدم ليؤكل بعضه ويرجع أكثره فهو تصنع وتزيين، فلا يأكل المتقون من هذا لأنه لا يدري كم مقدار ما يحبون أن يأكلوا منه، وطعام المباهاة مكروه لمن يقدمه بهذه النية إلى إخوانه لأنه قد عرضهم لتناول ما يكرهون، وقد دلس عليهم ما لا يعلمون، وأيضا فإنه شيء قد قدمه لأجل الله تعالى فلا يصح أن يستثني ارتجاع شيء منه بمنزلة من يخرج الرغيف أو الشيء للسائل فيجده قد انصرف فيكره أن يرجع فيه فيأكله، وقالوا: يعزله حتى يأتي سائل آخر دفعه إليه، (ولهذا كان لا يرفع من بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فضلة طعام قط) ولفظ " القوت ": ما رفع من بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-... إلخ، قال: وذلك (لأنهم كانوا) مخلصين في كل شيء (لا يقدمون إلا) كفايتهم و (قدر الحاجة ولا يأكلون) إلا بعد جوعهم، وإذا أكلوا لم يأكلوا (تمام الشبع) ولا يتركون الأكل وفي نفوسهم منه شيء (وينبغي أن يعزل أولا نصيب أهل البيت) من الطعام قبل تقديمه إلى إخوانه (حتى لا تكون أعينهم طامحة إلى رجوع شيء منه) ولا تحدث به نفوسهم، فإنه مكروه لهم (فلعله) أن (لا يرجع) منه شيء فيكون ذلك... إخراجا من الآكلين ومنقصة لهم (فتضيق صدورهم وتنطلق في الضيفان ألسنتهم، ويكون قد أطعم الضيفان ما يتبعه كراهية قوم، وذلك خيانة في حقهم) ، وهذا عليهم أشد من إكرامهم بالطعام، وما كان مضرا بالأهل مضيعا للأصل، (وما بقي من الأطعمة) بعد الفراغ من الأكل (فليس للضيفان أخذه وهو الذي تسميه الصوفية الزلة) بفتح الزاي وتضم. قال الليث: هي في الأصل الصنيعة إلى الناس، يقال: اتخذ فلان زلة وهي أيضا لما تحمل من مائدة صديقك أو قريبك عراقية، اشتق ذلك من الصنيع إلى الناس، اهـ .

وعن ابن شميل: كنا في زلة فلان أي: في عرسه، وقال أبو عمرو: وأزللت له زلة، ولا يقال: زللت، وجوز صاحب القاموس أنها مولدة تكلمت بها عامة العراقيين، وقد بينت ذلك في شرحي على القاموس، وذكرها الخفاجي في بعض مؤلفاته، واعتمد على أنها مولدة، وأهل الحجاز يسمون ما يؤخذ من رؤوس الأموال لأمرائهم زلة، وهو من ذلك (إلا إذا صرح صاحب الطعام بالإذن فيه) لهم أن يأخذوه (عن قلب راض) وصدر منشرح (أو علم ذلك بقرينة حاله) ولو لم يأذن فيه باللسان (و) علم (أنه يفرح به) فلا بأس بأخذه (فإن كان يظن [ ص: 260 ] كراهيته فلا ينبغي أن يؤخذ، وإذا علم رضاه) بأخذه (فينبغي) للآخذ (مراعاة) وصف (العدل والنصفة) محركة بمعنى الإنصاف (مع الرفقاء) الحاضرين، (فلا ينبغي أن يأخذ الواحد) منه (إلا ما يخصه أو ما يرضى به رفيقه عن طوع) نفس (لا عن حياء) وانقباض، وكان بعض أهل الحديث إذا أكل مع إخوانه ترك من الرغيف فوق رغيف يعزله معه، وكان سيار بن حاتم إذا حضر على مائدة أكل لقيمات ثم يقول: اعزلوا نصيبي. وأكل ذات يوم على مائدة في جماعة، فلما جاءت الحلوى نزع قلنسوته ثم قال: اجعلوا سهمي في هذه. نقله صاحب "القوت "، وهذا وأمثاله إذا فعله أحد في زماننا لعد منقصة في الدين والمروءة .




الخدمات العلمية