الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الخامس : أن لا يتكلف السجع في الدعاء فإن حال الداعي ينبغي أن يكون حال متضرع والتكلف لا يناسبه قال صلى الله عليه وسلم : " سيكون قوم يعتدون في الدعاء " وقد قال عز وجل : ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين قيل : معناه : التكلف للأسجاع والأولى أن لا يجاوز الدعوات المأثورة فإنه قد يعتدي في دعائه فيسأل ما لا تقتضيه مصلحته فما كل أحد يحسن الدعاء ؛ ولذلك روي عن معاذ رضي الله عنه أن العلماء يحتاج إليهم في الجنة ؛ إذ يقال لأهل الجنة تمنوا ، فلا يدرون كيف يتمنون حتى يتعلموا من العلماء وقد قال صلى الله عليه وسلم : " إياكم والسجع في الدعاء حسب ، أحدكم أن يقول : اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل " وفي الخبر : " سيأتي قوم يعتدون في الدعاء والطهور " ومر بعض السلف بقاص يدعو بسجع ، فقال له : أعلى الله تبالغ ؟! أشهد لقد رأيت حبيبا العجمي يدعو وما يزيد على قوله : اللهم اجعلنا جيدين اللهم لا تفضحنا يوم القيامة ، اللهم وفقنا للخير والناس يدعون من كل ناحية وراءه وكان يعرف بركة دعائه .

وقال بعضهم : ادع بلسان الذلة والافتقار لا بلسان الفصاحة والانطلاق .

ويقال : إن العلماء الأبدال لا يزيدون في الدعاء على سبع كلمات فما دونها ويشهد له آخر سورة البقرة فإن الله تعالى لم يخبر في موضع من أدعية عبادة أكثر من ذلك .

واعلم أن المراد بالسجع هو المتكلف من الكلام فإن ذلك لا يلائم الضراعة والذلة وإلا ففي الأدعية المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات متوازنة لكنها غير متكلفة ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " أسألك الأمن من يوم الوعيد ، والجنة يوم الخلود مع المقربين الشهود ، والركع السجود ، الموفين بالعهود ؛ إنك رحيم ودود وإنك ، تفعل ما تريد " وأمثال ذلك فليقتصر على المأثور من الدعوات أو ليلتمس بلسان التضرع والخشوع من غير سجع وتكلف فالتضرع هو المحبوب عند الله عز وجل .

التالي السابق


( الخامس: أن لا يتكلف السجع في الدعاء) أصل السجع الهدير، وقد سجعت الحمامة، وهو في الكلام مشبه بذلك لتقارب فواصله، وسجع الرجل كلامه، كما يقال: نظمه، إذا جعل لكلامه فواصل كقوافي الشعر، ولم يكن موزونا .

( فإن حال الداعي ينبغي أن يكون حال متضرع) متخشع ( والتكلف لا يناسبه) لأنه يفضي إلى فوات تلك الحالة ( قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "سيكون قوم يعتدون في الدعاء" ) قال العراقي: وفي رواية: "والطهور" رواه أبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم من حديث عبد الله بن مغفل. اهـ .

قلت: وذكر صاحب القوت في كتاب العلم: قال عبد الله بن مغفل لابنه وقد سمعه يقرأ خلف الإمام وسمعه يسجع في كلامه: هذا الذي يبغضك إلي، لا قضيت لك حاجة أبدا، وكان قد جاءه يسأله حاجة، فقال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أوتي امرؤ شرا من طلاقة لسان" وقد قاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن رواحة حين سجع، فوالى بين ثلاث كلمات، وقال: "إياك والسجع يا ابن رواحة" فكان السجع ما زاد على كلمتين .

وكذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للرجل الذي أمره بيده الجنين لما قال: "كيف أودي من لا شرب ولا أكل ولا صاح ولا استهل، ومثل هذا يطل، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أسجع كسجع الأعراب؟!" وهذا الكلام قد تقدم بتفصيله في كتاب العلم فراجعه .

( وقد قال عز وجل: ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ) أي: المتجاوزين ما أمروا به في الدعاء وغيره ( قيل: معناه: التكلف للأسجاع) وقيل: هو الصياح في الدعاء، والإسهاب فيه، وقيل: هو طلب ما لا يليق بالداعي، كرتبة الأنبياء، والصعود إلى السماء .

( والأولى أن لا يجاوز الدعوات المأثورة) من السنة والسلف الصالح ( فإنه إذا جاوزها ربما اعتدى في دعائه) وتجاوز عن حدوده ( فيسأل ما لا تقتضيه مصلحته؛ ولذلك روي عن معاذ) بن جبل ( رضي الله عنه أن العلماء يحتاج إليهم في الجنة؛ إذ يقال لأهل الجنة تمنوا، فلا يدرون كيف يتمنون حتى يتعلموا من العلماء) قال الشهاب القليوبي في البدور المنيرة: هو حديث موضوع .

قلت: رواه ابن عساكر في التاريخ من حديث جابر "أن أهل الجنة ليحتاجون إلى العلماء في الجنة؛ وذلك أنهم يزورون الله تعالى في كل جمعة، فيقول لهم: تمنوا علي ما شئتم، فيلتفتون إلى العلماء، فيقولون: ماذا نتمنى؟ فيقولون: تمنوا عليه كذا وكذا، فهم يحتاجون إليهم في الجنة كما يحتاجون إليهم في الدنيا" هكذا أورده في ترجمة صفوان الثقفي، عن جابر.

ورواه الديلمي كذلك، وفيه مجاشع راوي كتاب الأهوال والقيامة في جزأين، قال الذهبي في الميزان: كله موضوع، وقال البخاري: منكر مجهول، وقال ابن معين: هو أحد الكذابين .

( وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إياكم والسجع في الدعاء، بحسب أحدكم أن يقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل") قال العراقي: غريب بهذا السياق .

وللبخاري عن ابن عباس: "وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه فإني عهدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لا يفعلون ذلك" ولابن ماجه والحاكم واللفظ له وقال: صحيح الإسناد من حديث عائشة: "عليك بالكوامل" وفيه: "وأسألك الجنة" إلخ. اهـ .

قلت: وسيأتي هذا الدعاء للمصنف في الباب الثالث أطول من هذا .

( وفي الخبر: "سيأتي قوم يعتدون في الدعاء والطهور") رواه أبو داود، وابن ماجه من حديث عبد الله بن مغفل -رضي الله عنه- وتقدم قريبا، وتقدم أيضا في كتاب الطهارة .

( ومر بعض السلف بقاص) يقص على الناس، وهو ( يدعو بسجع، فقال له: أعلى الله تبالغ؟! أشهد لقد رأيت حبيبا [ ص: 38 ] العجمي) أبا محمد ( يدعو ما يزيد على قوله: اللهم اجعلنا خيرين) أي: من زمرة أهل الخير ( اللهم تفضحنا يوم القيامة، اللهم وفقنا للخير) وهي ثلاث جمل جامعة لمعاني الدعاء ( والناس يدعون من كل ناحية وراءه وكان يعرف بركة دعائه) وهو من المشهورين، ترجمه أبو نعيم في الحلية، وأخذ عن الحسن البصري، وهو أحد وسائط الخرقة الصوفية .

( وقال بعضهم: ادع بلسان الذلة والافتقار لا بلسان الفصاحة والانطلاق) أي: فإن الاشتغال بالفصاحة في الدعاء مما يذهب الخشوع فيه ( ويقال: إن العلماء بالله) تعالى ( والأبدال) الطائفة المشهورة من الأولياء ( لا يزيد أحدهم في الدعاء على سبع كلمات فما دونها) ويرون الإسهاب فيه من جملة الاعتداء ( ويشهد لذلك آخر سورة البقرة) وهو قوله: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا إلى آخر السورة ( فإن الله -عز وجل- لم يخبر في موضع من أدعية عباده بأكثر من ذلك) ولا سيما وقد جمعت في أولها صيغتي الإيجاب والنفي، واستوعبت جميع ما يحتاج إليه العبد في دنياه وآخرته .

( واعلم أن المراد بالسجع) المنهي في الدعاء ( هو المتكلف من الكلام) لا ما أورده الداعي سهلا عفوا من غير قصد ( لأن ذلك) أي التكلف ( لا يلائم الضراعة) والافتقار ( والذلة) والمسكنة ( وإلا ففي) بعض ( الأدعية المأثورة) عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ( كلمات متوازنة) الفواصل ( لكنها غير متكلفة، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أسألك الأمن يوم الوعيد، والجنة يوم الخلود مع المقربين الشهود، والركع السجود، الموفين بالعهود؛ إنك رحيم ودود، وأنت تفعل ما تريد") ففي كل من: الخلود والشهود والسجود والعهود والودود تقارب .

قال العراقي: رواه الترمذي من حديث ابن عباس، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ليلة حين فرغ من صلاته، فذكر حديثا طويلا، من جملته هذا، وقال: حديث غريب. قال العراقي: وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى سيئ الحفظ. اهـ .

قلت: وكذا رواه محمد بن نصر في الصلاة، والطبراني في الكبير، والبيهقي في الدعوات، وأول الدعاء: "اللهم يا ذا الحبل الشديد، والأمر الرشيد، أسألك الأمن يوم الوعيد" إلخ، وفيه: "إنك تفعل ما تريد" وهو دعاء طويل .

( وأمثال ذلك) كقوله: "اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يسمع، ومن نفس لا تشبع، ومن علم لا ينفع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع" وكقوله: "اللهم إني أسألك الفوز في القضاء، ونزل الشهداء، وعيش السعداء، والنصر على الأعداء" وكقوله: "اللهم اجعلني شكورا، واجعلني صبورا، واجعلني في عيني صغيرا وفي أعين الناس كبيرا" ومن تصفح أدعيته المأثورة وجد من ذلك شيئا كثيرا .

( فليقتصر) الداعي ( على المأثور من الدعوات) ففيه النجاة ( أو يلتمس) وفي نسخة: وليتملق ( بلسان التضرع والخشوع والرهبة) ما ألهم الله له من الكلمات ( من غير سجع) في فواصلها ( و) لا ( تكلف) يخرجه عن حد الخشوع ( فالتضرع) في السؤال ( هو المحبوب عند الله تعالى) .




الخدمات العلمية