الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
السبب الثالث : الخوض في علم لا يستفيد الخائض فيه فائدة علم فهو مذموم في حقه كتعلم دقيق العلوم قبل جليلها وخفيها قبل جليها وكالبحث عن الأسرار الإلهية إذ يطلع الفلاسفة والمتكلمون إليها ولم يستقلوا بها ولم يستقل بها وبالوقوف على طرق بعضها إلا الأنبياء والأولياء فيجب كف الناس عن البحث عنها وردهم إلى ما نطق به الشرع ففي ذلك مقنع للموفق فكم من شخص خاض في العلوم واستضر بها ولو لم يخض فيها لكان حاله أحسن في الدين مما صار إليه ولا ينكر كون العلم ضارا لبعض الناس كما يضر لحم الطير وأنواع الحلوى اللطيفة بالصبي الرضيع بل رب شخص ينفعه الجهل ببعض الأمور فلقد حكي أن بعض الناس شكا إلى طبيب عقم امرأته وأنها لا تلد فجس الطبيب نبضها وقال لا حاجة لك إلى دواء الولادة فإنك ستموتين إلى أربعين يوما وقد دل النبض عليه فاستشعرت المرأة الخوف العظيم وتنغص عليها عيشها وأخرجت أموالها وفرقتها وأوصت وبقيت لا تأكل ولا تشرب حتى انقضت المدة فلم تمت فجاء زوجها إلى الطبيب وقال له لم تمت فقال الطبيب قد : علمت ذلك فجامعها الآن فإنها تلد فقال : كيف ذاك ؟ قال رأيتها سمينة وقد انعقد الشحم على فم رحمها فعلمت أنها لا تهزل إلا بخوف الموت فخوفتها بذلك حتى هزلت وزال المانع من الولادة

التالي السابق


(السبب الثالث: الخوض في علم) من العلوم إذا كان (لا يستقل الخائض به) أي لا يقدر على حمل أعبائه (فإنه مذموم في حقه) فإنه مكلف نفسه ما لا يطيقه (كتعلم دقيق العلوم) التي لا تعرف إلا بدقة النظر والبحث (قبل جليها) أي: واضحها وفي نسخة: قبل جليلها وقالوا: في معنى الرباني هو الذي يعلم بصغار العلوم قبل كبارها ومن يتعلم خفايا العلوم قبل استكمال معرفة جليها كالمتزبب قبل أن يتحصرم (وكالبحث) والتنقير ( عن الأسرار الإلهية) المكتومة (إذا تطلع الفلاسفة والمتكلمون إليها) وفي نسخة: عليها (ولم يستقلوا بها) لأنها ذوقية كشفية (ولا يستقل بها وبالوقوف على طرق بعضها إلا) السادة (الأنبياء) عليهم الصلاة والسلام بما يتلقون من الوحي ( والأولياء) رحمهم الله تعالى بمجاهداتهم ورياضاتهم فيفيض الله على قلوبهم أنوارا يكشفون بها ما خفي عن كثيرين وسيأتي عن سهل أن للإلهية سرا لو انكشف لبطلت النبوات وللنبوات سرا لو انكشف لبطل العلم وللعلم سرا لو انكشف لبطلت الأحكام (فيجب كف الناس) ومنعهم (عنها) وفي نسخة: عن البحث عنها (وردهم إلى ما نطق به الشرع) وأرشدنا لمعرفته (ففي ذلك مقنع) أي: كفاية (للموقن) وفي نسخة: للمؤمن، وفي أخرى للموفق (وكم من شخص خاض في العلوم واستضر بها) أي: وجد الضرر بها بأن استمالته إلى فساد في العقيدة أو حيرته فلم يجد له عنها مخلصا (ولو لم يخض فيها) ومشى على سنن ظاهر الشريعة (لكان حاله أحسن في الدين منه قبل الخوض فيها ألبتة) أي قطعا ولأن يعيش الإنسان خلف البقر عاميا يصلي فرضه ويصوم شهره خير له من هذه العلوم التي يتضرر بها في دينه (ولا تنكر) أيها المعاند (كون [ ص: 227 ] العلم ضارا لبعض الناس) دون بعض (كما يضر لحم الطير) مطلقا (وأنواع الحلاوات) وفي نسخة: الحلاوى (اللطيفة بالصبي الرضيع) وفي نسخة: المرضع أي لضعف معدته (بل رب شخص ينفعه الجهل ببعض الأمور) أحيانا (فلقد حكي أن بعض الناس شكا إلى الطبيب) وكان حاذقا بصيرا بالأمور (عقم زوجته وأنها لا تلد) هذه مفسرة للأولى (فجس الطبيب نبضها) أي: عرق يدها فرآها ليس بها من مرض يمنعها من الولادة (فقال لها لا حاجة بك إلى دواء الولادة فإنك ستموتين إلى) انتهاء (أربعين يوما وقد دل النبض عليه) أي: أماراته (فاستشعرت المرأة خوفا عظيما) أي لبست شعاره (وتنغص عليها عيشها) أي: تكدر (وأخرجت أموالها) في وجوه البر (وفرقتها) على الفقراء (وأوصت بوصايا وبقيت لا تأكل ولا تشرب حتى انقضت المدة) الموعود بها (فلم تمت فجاء زوجها إلى الطبيب وقال له) إنها ( لم تمت فقال الطبيب: علمت ذلك فجامعها الآن فإنها) تحمل و (تلد، قال: كيف ذلك؟) وفي نسخة: وكيف ذلك؟ أي: ما السر في ذلك (قال رأيتها سمينة قد انعقد الشحم على فم رحمها) وهو أحد أسباب العقم في المرأة كما ذكره الأطباء وإذابته غير متيسرة بالأدوية إلا الهزال (وعلمت أنها لا تهزل إلا بخوف الموت) ولا خوف أعظم منه (فخوفتها بذلك حتى هزلت وزال المانع من الولادة) ومثل هذه الحكاية نقل السخاوي في المقاصد قال: أورد البيهقي في مناقب الشافعي من طريق الحسين بن إدريس الحلواني عنه أنه قال: ما أفلح سمين قط إلا أن يكون محمد بن الحسن فقيل: ولم؟ قال: لأنه لا يخلو العاقل من إحدى حالتين إما أن يهتم لآخرته ومعاده أو لدنياه ومعاشه والشحم مع الهم لا ينعقد فإذا خلا من المعنيين صار في حد البهائم، ثم قال الشافعي: كان ملك في الزمان الأول، وكان مثقلا كثير اللحم لا ينتفع بنفسه فجمع المتطببين وقال احتالوا لي حيلة يخف عني لحمي هذا قليلا فما قدروا له على صنعة قال: فنعت له رجل عاقل أديب متطبب فبعث إليه فأشخص فقال: تعالجني ولك الغنى قال: أصلح الله الملك أنا رجل متطبب منجم دعني أنظر الليلة في طالعك أي: دواء يوافق طالعك فأشفيك، فغدا عليه فقال: أيها الملك الأمان. قال: لك الأمان قال: رأيت طالعك يدل على أن عمرك شهر فإن أحببت حتى أعالجك وإن أردت بيان ذلك فاحبسني عندك فإن رأيت لقولي حقيقة فخل عني وإلا فاستقص علي، قال: فحبسه، ثم رفع الملك الملاهي واحتجب عن الناس وخلا وحده مقيما يعد أيامه كلما انسلخ يوم ازداد غما حتى هزل وخف لحمه ومضى لذلك ثمانية وعشرون يوما فبعث إليه فأخرجه فقال: ما ترى فقال أعز الله الملك أنا أهون على الله من أن أعلم بالغيب والله ما أعرف عمري فكيف أعرف عمرك؟ إنه لم يكن عندي دواء إلا الغم فلم أقدر أن أجتلب إليك الهم إلا بهذه العلة، فأذابت شحم الكلى، فأجازه وأحسن إليه. اهـ .




الخدمات العلمية