الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ويستوي منها جالسا جلسة خفيفة للاستراحة في كل ركعة لا تشهد عقيبها .

التالي السابق


وإذا رفع رأسه من السجدة فما الذي يفعل؟ فللأصحاب في المسألة طريقان، أحدهما أن فيهما قولين؛ أصحهما أنه (يستوي منهما جالسا جلسة خفيفة للاستراحة) ، ثم ينهض، نص عليه المزني في "المختصر"، واختاره المصنف هنا، وفي "الوجيز" و"الوسيط" وذلك (في كل ركعة لا تشهد عقيبها) ، أي: لا يعقبها تشهد، والثاني أنه يقوم من السجدة الثانية ولا يجلس فيه، وهو الذي في "الأم"، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد، ودليل القول الأول ما روي عن مالك بن الحويرث "أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا". رواه البخاري، وفي لفظ له: فإذا رفع رأسه من السجدة الثانية جلس، واعتمد على الأرض، ثم قام، وللبخاري من حديث أبي هريرة في قصة المسيء صلاته: "ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا". وقد روى الترمذي وأبو داود في حديث أبي حميد: "ثم هوى ساجدا، ثم ثنى رجله، وقعد حتى رجع كل عضو إلى موضعه، ثم نهض"، قال الحافظ تبعا لشيخه ابن الملقن: أنكر الطحاوي أن تكون جلسة الاستراحة في حديث أبي حميد، وهي كما تراها فيه، وهو عجيب منه لجلالته قال: وأنكر النووي أن تكون في حديث المسيء صلاته، وهي في حديث أبي هريرة في هذه القصة عند البخاري في كتاب الاستئذان .

قلت: الطحاوي نظر إلى حديث أبي حميد؛ حيث ساقه بلفظ: "قام ولم يتورك"، فحكم بخلوه عنها، وهكذا ساقه أبو داود أيضا، ولكن أخرج أبو داود أيضا من وجه آخر عنه إثباتها، فعلم من ذلك أن الرواة عنه لم تتفق على نفيها، وعند الطحاوي ظاهر لا يخفى، ودليل القول الثاني -وهو قول الجماعة- حديث وائل بن حجر: "كان إذا رفع رأسه من السجدتين استوى قائما" استغربه النووي في "شرح المهذب" وضعفه في "الخلاصة"، وبيض له المنذري في الكلام على "المهذب"، قال الحافظ: وظفرت به في سنة أربعين، أي: بعد الثمانمائة في "مسند البزار" في أثناء حديث طويل في صفة الوضوء والصلاة، وقد روى الطبراني عن معاذ بن جبل في أثناء حديث طويل: "أنه كان يمكن جبهته وأنفه من الأرض، ثم يقوم كأنه السهم". وسنده ضعيف، وروى ابن المنذر من حديث النعمان بن عياش قال: "أدركت غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا رفع رأسه من السجدة في أول ركعة وفي الثالثة قام كما هو، ولم يجلس". وعند أبي داود من حديث محمد بن عمرو بن عطاء، عن عباس أو عياش بن سهل أنه كان في مجلس فيه أيوب، فذكر الحديث، وفيه: "ثم كبر فسجد، ثم كبر فقام، ولم يتورك".

فعند الأئمة الثلاثة حديث ابن الحويرث على أنه جلس لعذر كان به، كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبادروني إني بدنت". وكما تربع ابن عمر لكون رجليه لا تحملانه حتى لا يتضاد الحديثان، وروى البيهقي من طريق خالد بن إياس عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهض في الصلاة على صدور قدميه"، ثم ضعفه بخالد بن إياس، ثم قال: وحديث مالك بن الحويرث أصح .

قلت: وهذا يقتضي أن حديث أبي هريرة صحيح أيضا، وتضعيفه لرواته يأبى ذلك، وقد أخرجه الترمذي أيضا من طريق خالد المذكور، وقال: العمل على حديث أبي هريرة عند أهل العلم، وخالد ضعيف، لكن يكتب حديثه، فقول الترمذي المذكور يدل على قوة أصل الحديث، وإن ضعف من هذا الطريق، هذا وقد [ ص: 73 ] أخرج البخاري حديث ابن الحويرث من طريق أيوب، عن أبي قلابة أن الحويرث قال لأصحابه: "ألا أنبئكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، الحديث، وفيه: "وصلى صلاة عمرو بن سلمة شيخنا هذا. قال أيوب: "كان يفعل شيئا لم أركم تفعلونه: كان يقعد في الثالثة أو الرابعة". قال الطحاوي: قول أيوب أنه لم ير الناس يفعلون ذلك -وهو قدر أي جماعة من التابعين- يدفع أن يكون ذلك سنة، وفي "التمهيد" لابن عبد البر: اختلف العلماء في النهوض من السجود إلى القيام، فقال مالك والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه: ينهض على صدور قدميه ولا يجلس. وروي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس، وقال أبو الزناد: وذلك سنة، وبه قال أحمد وابن راهويه، وقال أحمد : وأكثر الأحاديث على هذا، قال الأثرم: ورأيت أحمد ينهض بعد السجود على صدور قدميه، ولا يجلس قبل أن ينهض، وذكر عن ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبي سعيد: أنهم كانوا ينهضون على صدور أقدامهم، وفي "نوادر الفقهاء" لابن بنت نعيم: أجمعوا أنه إذا رفع رأسه من آخر سجدة من الركعة الأولى والثالثة نهض ولم يجلس، إلا الشافعي، فإنه استحب أن يجلس كجلوسه للتشهد ثم ينهض قائما. قال الرافعي : والطريق الثاني، قال أبو إسحاق: المسألة على حالين: إن كان بالمصلي ضعف لكبر وغيره، جلس للاستراحة، وإلا فلا .

قلت: وبه يحصل الجمع بين الحديثين، فمن قال بالجلسة حمله على حالة الكبر والضعف، ومن قال بعدم سنيتها حمله على غالب الأحوال كما تقدمت الإشارة إليه. قال الرافعي : والسنة في جلسة الاستراحة الافتراش، كذلك رواه أبو حميد.



(تنبيه) :

ظهر مما تقدم أن أحمد مع مالك وأبي حنيفة في عدم سنية الجلسة، فينظر مع قول صاحب "الإفصاح"، واختلفوا في وجوب الجلوس بين السجدتين، فقال أبو حنيفة ومالك : ليس بواجب، بل مسنون، وقال الشافعي وأحمد : هو واجب، والله أعلم .



(تنبيه) : آخر

قال النووي : اختلف أصحابنا في جلسة الاستراحة على وجهين، الصحيح أنها جلسة مستقلة تفصل بين الركعتين كالتشهد. والثاني أنها من الركعة الثانية، والله أعلم .




الخدمات العلمية