الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل [في استحقاق الأقل أو النصف]

                                                                                                                                                                                        ومن اشترى طعاما فاستحق أقله لزمه الباقي، واختلف في النصف، فقال ابن القاسم: له رد الباقي. [ ص: 4360 ]

                                                                                                                                                                                        وقال أشهب -في مدونته: يلزمه مثل العروض، وأنكر قول ابن القاسم، وأن يكون مالك قاله قط، وليس هذا اختلافا في فقه.

                                                                                                                                                                                        وأرى أن يرجع في ذلك إلى العادة في بيع الطعام في ذلك البلد، فإن كان ثمن الخمسين على الانفراد والجملة سواء لو كانت مائة لزم الباقين، وإن كان ثمن الخمسين على الانفراد أرخص كان له أن يرد؛ لأن المشتري يقول: إنما اشتريته بغلاء رغبة في شراء الجملة، ولئلا أتكلف شراء الباقي، ولو علمت أن المبيع هذا لم أشتره بذلك، وإن كان الثمن في الجملة أرخص، كان له مقال؛ لأنه يقول: إذا رددت هذا اشتريت الجملة رخيصة.

                                                                                                                                                                                        وقال محمد -فيمن اشترى صبرتين أو حملين على غير كيل فاستحق أحدهما: لزمه الباقي كالعبدين بخلاف البيع على الكيل. قاله في مسألة النصف حمل، والقياس أن يكون الجزاف والمكيل في ذلك سواء، ويرجع في الجميع إلى ما يقوله أهل المعرفة، هل البيع في الجميع والنصف سواء غلا أو رخص؟ وهذا الجواب في الاستحقاق.

                                                                                                                                                                                        وأما العيب فقال مالك وابن القاسم: إن من حق البائع أن لا يرد المعيب وحده، والمشتري بالخيار بين أن يقبل جميعه أو يرد جميعه سالمه ومعيبه؛ لأن بعضه يحمل بعضا ومحمل قوله على أحد الأقوال في العروض أنه يقبل جميع المعيب أو يرده، وعلى القول إنه يرد المعيب وحده ويكون ذلك في الطعام؛ لأنه لا يجوز له أن يخلط الطعام الجيد بالرديء ثم يبيعه، وإذا كان الحكم أن لا يخلطا وإن بيعا صفقة صار كالعروض، وإن كان المعيب مما لا ينفك عنه أسافل الصبرة، لزم المشتري قبوله، إلا أن يكون زائدا على المعتاد فيرد الزائد. [ ص: 4361 ]

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم -فيمن اشترى شاتين مذبوحتين، فأصاب إحداهما غير ذكية: له أن يرد الذكية كالطعام يستحق نصفه، وله أن يحبسها بما يصيبها من الثمن. وعلى قول أشهب تلزمه الذكية، وإن كانت الأدنى كالعروض.

                                                                                                                                                                                        وهذا إذا كانتا على الوزن، وإن كانتا جزافا لم يكن له أن يرد على قول محمد، إذا كانتا متكافئتين ولا على قول أشهب، وإن كانت الذكية الأدنى. وقال سحنون: البيع فاسد؛ لأنها صفقة جمعت حلالا وحراما، وهو أصله أيضا فيمن تزوج بعبد فثبت أنه حر، أن النكاح فاسد وإن لم يتعمداه.

                                                                                                                                                                                        وأخذ القاضي أبو الحسن علي بن القصار من هذه المسألة: أنه متى جمعت الصفقة حلالا وحراما نقض البيع الحرام وحده.

                                                                                                                                                                                        وقول ابن القاسم: إذا لم يعلما، أحسن؛ لأن الميتة في ذلك كالمستحقة، وكذلك أراد إذا علما وكانتا متكافئتين؛ لأنه لم يشتر إحداهما لمكان الأخرى، وكذلك إذا كانت الميتة الأدنى، وكل موضع يكون البيع لازما في الاستحقاق، وفيما لم يستحق يكون لازما في الذكي؛ لأنه لم يشتره لمكان الميتة، وإذا كان ذلك لزم الذكي. وكذلك إذا كانت قلال خل فوجد بعضها خمرا، يختلف هل يكون العقد في الخل صحيحا أو فاسدا؟ وإذا كان صحيحا وكان الخل النصف فأكثر وهو جزاف لزم البيع فيها.

                                                                                                                                                                                        ويختلف إذا كانت على الكيل، فقال ابن القاسم: يكون بالخيار فيها. وقال أشهب: يلزم البيع في الخل، وإن كانت التي هي خل واحدة من عشرة لزمت. [ ص: 4362 ]

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم -فيمن باع عبدا بثوبين، ثم وجد أحد الثوبين معيبا، وهو الوجه وفات الأدنى، والعبد قائم: رد المعيب وقيمة الأدنى وأخذ العبد، وإن فات العبد بحوالة الأسواق فما فوق وقيمة المعيب من الثوبين الثلث أو الربع، رده وأخذ قيمة ثلث العبد أو ربعه. فتكلم على وجهين من المسألة، إذا كان المعيب الوجه والعبد قائم، أو كان المعيب الأدنى وفات العبد. وبقي وجهان: إذا كان المعيب الوجه وفات العبد، أو كان المعيب الأدنى والعبد قائم.

                                                                                                                                                                                        فإن كان المعيب الوجه وفات العبد، رد المعيب وأخذ ما ينوبه من قيمة العبد، ومضى الأدنى بما ينوبه من قيمة العبد. وعلى القول الآخر يكون للمشتري أن يرد قيمته بدلا عن عيبه، ويأخذ قيمة عبده إذا كان الذي ينوبه من قيمة العبد أكثر من قيمة الأدنى.

                                                                                                                                                                                        وإن كان المعيب الأدنى والعبد قائم، رد المعيب ورجع بما ينوبه من قيمة صاحبه، ولا يرجع شريكا في عين العبد، وقاله ابن القاسم مرة، وينقلب الخيار لمشتريه، فيخير بين أن يرضى بالشركة أو يرده، وهو معنى قول أشهب؛ لأنه لم يقل لا خيار لمشتريه.

                                                                                                                                                                                        وما قيل في ذلك: إن الخيار له لأن العيب من سببه- فليس بحسن؛ لأن البائع إذا كان غير مدلس فلم يقصد إلى بقاء الشركة فيه، وإن كان مدلسا، فإنه يرجو أن بحاله ذلك، أو يطلع فيجري على الأحكام في المبيعات أن لا يؤخذ في العيب بغير ما باع به، كما لم يجبر أن يسقط قيمة العيب مع قيام المبيع، وإن وجد العيب بالعبد رده وأخذ ثوبيه إن كانا قائمين، أو قيمتهما إن كانا فائتين.

                                                                                                                                                                                        وإن فات أحدهما وهو الأعلى كان فوتا للأدنى ويأخذ قيمتها، إلا أن يحب [ ص: 4363 ] البائع أن يأخذ الأدنى فذلك له؛ لأن المقال له فيه لا عليه. وإن فات الأدنى أخذ الأعلى، واختلف في الأدنى إذا كان قائما، فقيل: يرد قيمته. وقيل: لمشتريه أن يرده؛ لأن انتزاع الأجود من يديه عيب عليه في الأدنى، وقد تقدم ذلك.

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية