الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية

        ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

        لكن يجوز - بل يجب الإعطاء لتأليف من يحتاج إلى تأليف قلبه ، وإن كان هو لا يحل له أخذ ذلك ، كما أباح الله - تعالى في القرآن العطاء للمؤلفة قلوبهم ، من الصدقات ، وكما { قال النبي صلى الله عليه وسلم يعطى المؤلفة قلوبهم من الفيء ونحوه } ، وهم السادة المطاعون في عشائرهم ، كما [ ص: 76 ] { كان النبي صلى الله عليه وسلم ، يعطي الأقرع بن حابس سيد بني تميم وعيينة بن حصن سيد بني فزارة ، وزيد الخير الطائي سيد بني نبهان ، وعلقمة بن علاثة العامري ، سيد بني كلاب ومثل سادات قريش من الطلقاء كصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل ، وأبي سفيان بن حرب ، وسهل بن عروة والحارث بن هشام ، وعدد كثير } ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : { بعث علي وهو باليمن بذهيبة في تربتها ، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أنفر : الأقرع بن حابس الحنظلي ، وعيينة بن حصن الفزاري وعلقمة بن علاثة العامري ، ثم أحد بني كلاب ، وزيد الخير الطائي ، أحد بني نبهان قال : فغضبت قريش والأنصار ، فقالوا : يعطي صناديد نجد ويدعنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني إنما فعلت ذلك لتألفهم فجاء رجل كث اللحية مشرف الوجنتين ، غائر العينين ، ناتئ الجبينين ، محلوق الرأس ، فقال : اتق الله يا محمد فقال رسول الله [ ص: 77 ] صلى الله عليه وسلم : فمن يطع الله إن عصيته ؟ أيأمنني أهل الأرض ، ولا تأمنوني ؟ قال : ثم أدبر الرجل ، فاستأذن رجل من القوم في قتله ، ويرون أنه خالد بن الوليد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من ضئضئ هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقتلون أهل الإسلام ، ويدعون أهل الأوثان ، يمرقون من الإسلام ، كما يمرق السهم من الرمية ، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد } .

        وعن رافع بن خديج رضي الله عنه عنه قال : { أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أبا سفيان بن حرب ، وصفوان بن أمية ، وعيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس ، كل إنسان منهم مائة من الإبل ، وأعطى عباد بن مرداس ذلك ، فقال عباد بن مرداس :

        أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع     وما كان حصن ولا حابس يفوقان
        مرداسا في المجمع     وما كنت دون امرئ منهما
        ومن يخفض اليوم لا يرفع

        قال : فأتم رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة
        } رواه مسلم والعبيد اسم فرس له [ ص: 78 ]

        والمؤلفة قلوبهم نوعان : كافر ومسلم : إما أن ترجى بعطيته منفعة كإسلامه ، أو دفع مضرته ، إذا لم يندفع إلا بذلك .

        والمسلم المطاع يرجى بعطيته المنفعة أيضا ، كحسن إسلامه ، أو إسلام نظيره ، أو جباية المال ممن لا يعطيه ، إلا لخوف أو لنكاية في العدو ، أو كف ضرره عن المسلمين ، إذا لم ينكف إلا بذلك ، وهذا النوع من العطاء ، وإن كان ظاهره إعطاء الرؤساء ، وترك الضعفاء ، كما يفعل الملوك ، فالأعمال بالنيات ، فإذا كان القصد بذلك مصلحة الدين وأهله ، كان من جنس عطاء فرعون ، وإنما ينكره ذوو الدين الفاسد كذي الخويصرة الذي أنكره على النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى قال فيه ما قال ، وكذا حزبه الخوارج أنكروا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ما قصد به المصلحة من التحكيم ومحو اسمه ، وما تركه من سبي نساء المسلمين وصبيانهم .

        وهؤلاء أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم لأن معهم دينا فاسدا لا يصلح به دنيا ولا آخرة ، وكثيرا ما يشتبه الورع الفاسد بالجبن والبخل ، فإن كليهما فيه ترك ، فيشتبه ترك الفساد ; لخشية الله - تعالى بترك ما يؤمر به من الجهاد والنفقة ، جبنا وبخلا ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : { شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع } قال الترمذي : حديث صحيح . [ ص: 79 ]

        وكذلك قد يترك الإنسان العمل ظنا ، أو إظهارا أنه ورع ، وإنما هو كبر وإرادة للعلو ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : { إنما الأعمال بالنيات } كلمة جامعة كاملة ، فإن النية للعمل ، كالروح للجسد ، وإلا فكل واحد من الساجد لله ، والساجد للشمس والقمر ، قد وضع جبهته على الأرض ، فصورتهما واحدة ، ثم هذا أقرب الخلق إلى الله - تعالى ، وهذا أبعد الخلق عن الله .

        وقد قال الله تعالى : { وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة }

        وفي الأثر : أفضل الإيمان : السماحة والصبر فلا يتم رعاية الخلق وسياستهم إلا بالجود ، الذي هو العطاء ، والنجدة التي هي الشجاعة ، بل لا يصلح الدين والدنيا إلا بذلك ، ولهذا كل من لا يقوم بهما سلبه الأمر ، ونقله إلى غيره ، كما قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير } .

        وقال تعالى : { ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله ، فمنكم من يبخل ، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ، ثم لا يكونوا أمثالكم } [ ص: 80 ]

        وقد قال الله تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ، وكلا وعد الله الحسنى } فعلق الأمر بالإنفاق الذي هو السخاء ، والقتال الذي هو الشجاعة ، وكذلك قال الله تعالى في غير موضع : { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله }

        وبين أن البخل من الكبائر ، في قوله تعالى { : ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله ، هو خيرا لهم ، بل هو شر لهم ، سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } .

        وفي قوله : { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } الآية .

        وكذلك الجبن في مثل قوله تعالى : { ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم [ ص: 81 ] وبئس المصير } وفي قوله تعالى : { ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون } .

        وهو كثير في الكتاب والسنة ، وهو مما اتفق عليه أهل الأرض ، حتى إنهم يقولون في الأمثال العامية : " لا طعنة ولا جفنة " ويقولون : " لا فارس الخيل ، ولا وجه العرب "

        ولكن افترق الناس هنا ثلاث فرق : فريق غلب عليهم حب العلو في الأرض والفساد ، فلم ينظروا في عاقبة المعاد ، ورأوا أن السلطان لا يقوم إلا بعطاء ، وقد لا يتأتى العطاء إلا باستخراج أموال من غير حلها ، فصاروا نهابين وهابين وهؤلاء يقولون : لا يمكن أن يتولى على الناس إلا من يأكل ويطعم فإنه إذا تولى الضعيف الذي لا يأكل ولا يطعم ، سخط عليه الرؤساء وعزلوه ، إن لم يضروه في نفسه وماله ، وهؤلاء نظروا في عاجل دنياهم ، وأهملوا الآجل من دنياهم وآخرتهم ، فعاقبتهم عاقبة رديئة في الدنيا والآخرة ، إن لم يحصل لهم ما يصلح عاقبتهم من توبة ونحوها .

        وفريق عندهم خوف من الله تعالى ، ودين يمنعهم عما يعتقدونه قبيحا من ظلم الخلق ، وفعل المحارم ، فهذا حسن واجب ، ولكن قد يعتقدون مع ذلك أن السياسة لا تتم إلا بما يفعله أولئك من الحرام ، فيمنعون عنها مطلقا ، وربما كان في نفوسهم جبن أو بخل ، أو ضيق [ ص: 82 ] خلق ينضم إلى ما معهم من الدين ، فيقعون أحيانا في ترك واجب ، يكون تركه أضر عليهم من بعض المحرمات ، أو يقعون في النهي عن واجب ، يكون النهي عنه من الصد عن سبيل الله ، وقد يكونون متأولين ، وربما اعتقدوا أن إنكار ذلك واجب ، ولا يتم إلا بالقتال ، فيقاتلون المسلمين كما فعلت الخوارج ، وهؤلاء لا تصلح بهم الدنيا ولا الدين الكامل ، لكن قد يصلح بهم كثير من أنواع الدين ، وبعض أمور الدنيا ، وقد يعفى عنهم فيما اجتهدوا فيه فأخطئوا ، ويغفر لهم قصورهم ، وقد يكونون من الأخسرين أعمالا ، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وهذه طريقة من لا يأخذ لنفسه ، ولا يعطي غيره ، ولا يرى أنه يتألف الناس من الكبار والفجار ، لا بمال ولا بنفع ، ويرى أن إعطاء المؤلفة قلوبهم من نوع الجور والعطاء المحرم .

        الفريق الثالث : الأمة الوسط ، وهم " أهل " دين محمد صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه على عامة الناس وخاصتهم إلى يوم القيامة ، وهو إنفاق المال والمنافع للناس - وإن كانوا رؤساء - بحسب الحاجة ، إلى صلاح الأحوال ، ولإقامة الدين ، والدنيا التي يحتاج إليها الدين ، وعفته في نفسه فلا يأخذ ما لا يستحقه ، فيجمعون بين التقوى والإحسان { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون }

        ولا تتم السياسة الدينية إلا بهذا ، ولا يصلح الدين والدنيا إلا بهذه الطريقة . [ ص: 83 ]

        وهذا هو الذي يطعم الناس ما يحتاجون من طعامه ، ولا يأكل هو إلا الحلال الطيب ، ثم هذا يكفيه من الإنفاق أقل ما يحتاج إليه والأولون ، فإن الذي يأخذ لنفسه ، تطمع فيه النفوس ، ما لا تطمع في التعفيف ، ويصلح به الناس في دينهم ما لا يصلحون بالثاني ، فإن العفة مع القدرة تقوي حرمة الدين ، وفي الصحيحين عن أبي سفيان بن حرب { أن هرقل ملك الروم ، قال له عن النبي صلى الله عليه وسلم بماذا يأمركم ؟ قال : يأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة } - وفي الأثر : { أن الله أوحى إلى إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام : يا إبراهيم أتدري لم اتخذتك خليلا ؟ لأني رأيت العطاء أحب إليك من الأخذ } .

        هذا الذي ذكرناه في الرزق ، والعطاء ، الذي هو السخاء ، وبذل المنافع ، نظيره في الصبر والغضب ، الذي هو الشجاعة ودفع المضار .

        إن الناس ثلاثة أقسام : قسم يغضبون لنفوسهم ولربهم ، وقسم لا يغضبون لنفوسهم ولا لربهم ، والثالث - وهو الوسط - أن يغضب لا لنفسه كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : { ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده : خادما له ، ولا امرأة ، ولا دابة ، ولا شيئا [ ص: 84 ] قط ، إلا أن يجاهد في سبيل الله ، ولا نيل منه شيء فانتقم لنفسه قط ، إلا أن تنتهك حرمات الله ، فإذا انتهكت حرمات الله ، لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله } .

        فأما من يغضب لنفسه لا لربه ، أو يأخذ لنفسه ولا يعطي غيره ، فهذا القسم الرابع ، شر الخلق ، لا يصلح بهم دين ولا دنيا ، كما أن الصالحين أرباب السياسة الكاملة ، هم الذين قاموا بالواجبات وتركوا المحرمات ، وهم الذين يعطون ما يصلح الدين بعطائه ، ولا يأخذون إلا ما أبيح لهم ، ويغضبون لربهم إذا انتهكت محارمه ويعفون عن حظوظهم ، وهذا أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم في بذله ودفعه وهي أكمل الأمور ، وكلما كان إليها أقرب ، كان أفضل ، فليجتهد المسلم في القرب إليها بجهد ، ويستغفر الله بعد ذلك من قصوره أو تقصيره بعد أن يعرف كمال ما بعث الله تعالى به محمدا صلى الله عليه وسلم من الدين ، فهذا في قول الله - سبحانه وتعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } والله أعلم .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية