الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        الجامع لأحكام الوقف والهبات والوصايا

        خالد المشيقح - أ.د/ خالد بن علي بن محمد المشيقح

        صفحة جزء
        الشرط التاسع: أن لا تزيد الهبة.

        صورة ذلك: أن يهب شخص لولده شيئا من الأشياء، فيزيد ذلك الشيء عند الولد; كأن يهبه شاة فتسمن أو تلد، أو نخلا فتثمر، ونحو ذلك، فهل تكون تلك الزيادة مانعة للوالد من الفسخ في هبته تلك لولده؟ [ ص: 137 ]

        اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:

        القول الأول: أن الزيادة لا تمنع الرجوع في الموهوب مطلقا، سواء أكانت متصلة أم منفصلة.

        وإلى هذا القول ذهب إليه مطرف وابن الماجشون من المالكية، والشافعية، والرواية الثانية عند الحنابلة، والظاهرية، وهو قول ابن أبي ليلى .

        قال المواق: "وأما إذا تغيرت الهبة في عينها، فقد قال مطرف وابن الماجشون: زيادتها في عينها ونقصها لا يمنع اعتصارها.

        وقال أصبغ بمنع اعتصارها، وهو الظاهر من قول مالك وابن القاسم.

        وقال الشربيني: "ولو زاد الموهوب رجع الأصل فيه بزيادته المتصلة كسمن وحرث أرض لزراعة; لأنها تتبع الأصل.

        تنبيه: يستثنى من إطلاقه صورتان:

        الأولى: ما لو وهب أمة أو بهيمة حائلا ثم رجع فيها وهي حامل لم يرجع إلا في الأم دون الحمل; بناء على أن الحمل يعلم، وهو الأصح، ويرجع في الأم ولو قبل الوضع في أحد وجهين، صححه القاضي، وهو المعتمد، كما أجاب به ابن الصباغ وغيره. [ ص: 138 ]

        الثانية: ما لو وهبه نخلا فأطلعت تمرا غير مؤبر، فلا يرجع فيه على المذهب; لأنه لا معاوضة ولا تراض كالصداق ... لأن الزيادة المنفصلة كالولد الحادث والكسب، فلا يرجع الأصل فيها بل تبقى للموهب".

        وقال ابن قدامة: "الرابع: أن لا تزيد زيادة متصلة كالسمن والكبر وتعلم صنعة، فإن زادت، فعن أحمد فيها روايتان".

        وحجته:

        1- عموم أدلة جواز رجوع الوالد فيما وهب لولده.

        وهذا العموم يشمل ما إذا زادت الهبة مطلقا.

        2- أن حق الرجوع كان ثابتا في الأصل فيثبت في التبع.

        نوقش: بأن الأصل أن يرجع فيه ما دام ذلك ممكنا، أما إن تعذر بأن يرجع الأب فيما لم يهبه فلا; لكونه يكون قد رجع فيما لم يهبه، والشارع إنما أباح له أن يرجع فيما وهبه.

        وأجيب: بعدم التسليم، فإمكان الرجوع ممكن كما سبق.

        3- أن الزيادة المتصلة لا تمنع الرجوع بعد القبض، كما أن المنفصلة لا تمنعه بجامع كون كل واحدة منهما زيادة.

        ونوقش بالفرق بين الزيادتين: فإن الزيادة المنفصلة لم تمنعه; لإمكان العود في الأصل دونها، وأما المتصلة فإنما منعته; لعدم إمكان العود في الأصل دونها.

        وأجيب: بإمكان الرجوع في الزيادة المتصلة كما سبق. [ ص: 139 ]

        4- أن الزيادة المتصلة لا تمنع الرجوع بعد القبض، كما أنها لا تمنعه قبل القبض.

        ونوقش: بأنه قياس على مختلف فيه، وهو لا يثمر حجة إلا عند من يرى صحة الحكم في الأصل.

        5- قياسا على نقص القيمة.

        ونوقش: بالفرق; ذلك أن الزيادة المجردة في السعر ليست زيادة حقيقية في عين الموهوب، وإنما بسبب كثرة رغبات الناس بخلاف الزيادة في عين الموهوب فهي زيادة حقيقية.

        القول الثاني: أن الزيادة إن كانت متصلة تمنع الرجوع، وإن كانت منفصلة لم تمنع الرجوع.

        وإلى هذا القول ذهب الحنفية، والمالكية، وهو المذهب عند الحنابلة.

        وقال السرخسي: "وإن كانت الهبة دارا، أو أرضا فبنى في طائفة منها، أو غرس شجرة، أو كانت جارية صغيرة فكبرت وازدادت خيرا، أو كان غلاما فصار رجلا، فلا رجوع له في شيء من ذلك". [ ص: 140 ]

        ودليلهم:

        أولا: استدلوا على الرجوع في الزيادة المنفصلة: 1- ما تقدم من دليل الرأي الأول.

        2- أنه يمكن الفسخ في الأصل دونها بخلاف المتصلة، وإذا كان الفسخ في الأصل ممكنا دونها لم يفت الفسخ; إذ لا ضرر.

        ثانيا: استدلوا لمنع الرجوع بالزيادة المتصلة بما يلي:

        1- أن الشارع إنما جعل الرجوع للوالد فيما وهب، والموهوب قد اختلط بغيره، فإذا رجع رجع فيما لم يهب لولده فيمتنع.

        2- أن الزيادة ليست بموهوبة؛ إذ لم يرد عليها العقد، فلا يجوز أن يرد عليها الفسخ; لئلا يفضي إلى سوء المشاركة وضرر التشقيص.

        ونوقش هذان الدليلان بما نوقش به الدليل الثاني من الرأي الثالث.

        3- أن حق الواهب هنا ضعيف، وحق صاحب الزيادة قوي، فإذا تعذر التمييز بينهما رجحنا أقوى الحقين، وجعلنا الضعيف مرفوعا.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأنه مجرد دعوى تحتاج إلى دليل.

        4- ولأن الفسخ في هذه الحالة هو استرجاع للمال بفسخ عقد لغير عيب في عوضه، فمنعته الزيادة المتصلة، كاسترجاع الصداق بفسخ النكاح أو نصفه بالطلاق، أو رجوع البائع في المبيع لفلس المشتري. [ ص: 141 ]

        ونوقش هذا الاستدلال: بقلبه حجة عليكم، فيقال: الزيادة المتصلة لا تمنع الرجوع كفسخ النكاح لا يمنع من استرجاع الصداق، والطلاق لا يمنع استرجاع نصف الصداق، وفلس المشتري لا يمنع رجوع البائع في السلعة.

        5- أن الزيادة نماء ملك الموهوب له فيمتنع الرجوع فيها، وإذا امتنع الرجوع فيها امتنع في الأصل; لئلا يفضي إلى سوء المشاركة.

        ونوقش: بعدم التسليم فيمكن الرجوع في الزيادة دون الأصل.

        القول الثالث: أن زيادة الموهوب تمنع الأب من الرجوع على ولده مطلقا، سواء أكانت الزيادة متصلة أو منفصلة.

        وهو رواية عن الإمام أحمد.

        وحجته:

        1- حديث ابن عمر، وابن عباس -رضي الله عنهما- وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لواهب أن يرجع فيما وهب إلا الوالد فيما وهبه لولده" والموهوب إذا تغير بالزيادة لم يعد عين ما وهبه الوالد، بل هو شيء آخر.

        ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:

        الوجه الأول: أنه لو قيل بهذا لم يعد واهب فيما وهبه لولده إلا في القليل النادر; لأن أغلب الأشياء تتغير في فترة وجيزة عن حقيقتها التي كانت عليها، خصوصا ما كان ناميا منها، وأحكام الشريعة معلقة بالغالب لا بالنادر.

        الوجه الثاني: أن التغير المعتبر هو التغير المؤثر في قيم الأشياء ورغبة [ ص: 142 ] الناس فيها، أما التغير الذي لا يؤثر على قيم الأشياء ورغبة الناس فيها، فهذا لا اعتبار له كما هو معروف في قواعد الشرع، وأعراف الناس.

        2- أن الرجوع يفضي إلى سوء المشاركة وضرر التشقيص.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن هذا الضرر يمكن إزالته بجعل العين للوالد، وقيمة الزيادة للولد.

        3- أن تغير حال ذمة المعطي يمنع الرجوع، فلأن يمنعه تغير الهبة في نفسها أحرى وأولى.

        وقد سبقت مناقشة هذا الدليل في الشرط قبله.

        الترجيح:

        يترجح لي -والله أعلم- أن الزيادة سواء كانت متصلة أو منفصلة لا تمنع الرجوع; لقوة دليله، ومناقشته دليل المخالف، فيرجع الوالد، ويكون الابن شريكا في الزيادة المتصلة، وإن كانت الزيادة منفصلة فالقول بعدم الفوات بها وجيه; لأن الأب يستطيع أن يرجع في الأصل، وأما الزيادة فتبقى للولد، ولا يكون في ذلك ضرر على الولد، ويكون الوالد قد رجع فيما أباح الشارع له العودة فيه.

        فرع: شرط اعتبار الزيادة المتصلة مانعة من الرجوع.

        يشترط لكون الزيادة المتصلة في ذات الموهوب مانعة للرجوع: أن تكون مؤثرة في زيادة قيمته.

        وأما الزيادة التي لا تؤثر في زيادة قيمة الموهوب، فليست مانعة من الرجوع; لأنها في حكم العدم. [ ص: 143 ]

        قال الزيلعي: "والمراد بالزيادة المتصلة هو الزيادة في نفس الموهوب بشيء يوجب زيادة في القيمة، كما في المذكور في المختصر، وكالجمال والخياطة والصبغ ونحو ذلك، وإن زاد من حيث السعر فله الرجوع; لأنه لا زيادة في العين فلا يتضمن الرجوع إبطال حق الموهوب له".

        وقال الكاساني: "وإن صبغ الثوب بصبغ لا يزيد فيه أو ينقصه فله أن يرجع; لأن المانع من الرجوع هو الزيادة، فإذا لم يزده الصبغ في القيمة التحقت الزيادة بالعدم".

        وقال البهوتي: "(وإن وهبه) أمة أو بهيمة (حائلا ثم رجع) الأب (فيها حاملا فإن زادت قيمتها) بالحمل (فزيادة متصلة) تمنع الرجوع (وإن وهبه نخلا فحملت فقبل التأبير زيادة متصلة) تمنع الرجوع (وبعده) أي: التأبير، والمراد التشقق (منفصلة) لا تمنع الرجوع، نقله الحارثي عن الموفق، واقتصر عليه".

        التالي السابق


        الخدمات العلمية