الشرط الثاني: أن يكون الولد ثابت البنوة قبل الهبة.
ذكره الشافعية.
الشرط الثالث: أن لا يرتد الولد عن الإسلام. [ ص: 125 ]
صورة ذلك: أن أو لا يكون مفيتا عليه؟ يهب الأب لولده هبة فيقبضها الولد، ثم يرتد بعد ذلك عن الإسلام، فهل يكون ارتداد الولد مفيتا على الأب الرجوع في الهبة
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن ذلك لا يمنع الأب من الرجوع.
وهذا مقتضى قول الحنفية، والمالكية، وأحد قولي وهو مذهب الشافعي، الحنابلة; لأنهم يرون أن الردة لا تزيل الملك، وإن اختلفوا في تحديد كيفية بناء الملك، حيث يرى جمهورهم بقاءه موقوفا حتى يتبين أمره، ويرى الصاحبان من الحنفية: أنه لا يزول مطلقا.
وحجته:
1- عموم ما تقدم من أدلة جواز رجوع الأب فيما وهب لولده.
2- أن المرتد لا يزول ملكه عن ماله، وإذا كان ملكه لا يزول، فإن ردة الولد لا تمنع الأب فيما وهبه له; لبقاء الهبة على ملك الولد.
وعللوا لكون الردة لا تزيل الملك: بأن الردة سبب يبيح دم المرتد، فلم يزل ملكه به كزنى المحصن، وقتل المكافئ عمدا.
القول الثاني: أن ذلك يمنع الأب من الرجوع على الولد مؤقتا، فإذا [ ص: 126 ] رجع الولد لإسلامه رجع للوالد حق الفسخ، وإن لم يرجع إلى الإسلام لم يرجع إلى الوالد حق الفسخ.
وهذا قول للشافعية، وهو مقتضى الرواية الثانية عند الحنابلة القاضية: بأن المرتد يزول ملكه عن ماله بالردة.
وحجته: أن من شرط رجوع الأب فيما وهبه لولده أن يكون الموهوب باقيا على ملك الولد، والولد قد ارتد، والمرتد يزول ملكه عن ماله بالردة، فلا يكون للوالد الرجوع; لعدم بقاء الموهوب على ملك الولد.
والدليل على زوال ملك الولد بالردة:
(255) 1- ما روى من طريق البخاري عبيد الله بن عتبة، من طريق ومسلم عن سعيد بن المسيب، -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: أبي هريرة "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله".
فدل الحديث على أن عصمة نفسه وماله إنما تثبت بإسلامه، فزوال إسلامه يزيل عصمتهما كما لو لحق بدار الحرب.
2- ولأن المسلمين ملكوا إراقة دمه بردته، فوجب أن يملكوا أمواله بها.
ونوقش: بأن إباحة الدم لا يلزم منها إباحة المال; بدليل: أن الزاني [ ص: 127 ] المحصن يقتل لزناه، ولا يبيح ذلك ماله، وكذلك إذا قتل الإنسان من يكافئه، فإنه يقتل به ولا يبيح ذلك ماله.
وأجيب: بأنه مسلم في القاتل والزاني، لكنه غير مسلم في المرتد; لوجود النص.
سبب الخلاف:
يظهر من خلال عرض القولين في هذه المسألة: أن الخلاف فيها مبني على الخلاف في الردة هل تزيل الملك أو لا؟ فمن قال تزيله منع الأب من الرجوع، ومن جعلها غير مزيلة للملك لم يجعلها مانعة من الرجوع.
الترجيح:
يترجح -والله أعلم- ما ذهب إليه أصحاب القول الأول القاضي بعدم فوات الفسخ على الوالد بردة الولد; وذلك لوجاهة ما عللوا به، وللإجابة عن دليل أصحاب القول الثاني.
ويتأيد هذا بأن رجوع الوالد في هذه الحالة متعين; لأنه إذا لم يرجع كان المال عونا للولد على معصية الله تعالى، خاصة على رأي الصاحبين من الحنفية اللذين يريان بأن تصرفاته مطلقة في المال في حال الردة.
وأما إذا قلنا: إن تصرفاته تكون موقوفة، فلن يكون المال عونا على المعصية; لعدم إمكان التصرف فيه.
لكن لو قيل: مع ذلك قد يكون وسيلة إلى رجوعه إلى الإسلام لكان ذلك متعينا، حتى ولو قلنا بوقف التصرف. والله أعلم.
الشرط الرابع: أن لا يحرم الولد بحج أو عمرة إذا كان الموهوب صيدا.
صورة ذلك: أن يهب الأب لولده صيدا فيقبض الولد الصيد، ثم يحرم [ ص: 128 ] بحج أو عمرة، فهل يملك الأب الرجوع في تلك الهبة بإحرام الولد أو لا يملكه؟.
تحرير محل النزاع:
لا يخلو ذلك الصيد إما أن يكون صيد بحر، وإما أن يكون صيد بر، فإن كان صيد بحر فإن الأب يملك الرجوع لإجماع القائلين بجواز رجوع الوالد في هبته لولده، على أن صيد البحر مباح للمحرم، وأنه لا يخرج من ملكه بالإحرام; لقوله تعالى: أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة .
وإن كان صيد بر فقد وقع فيه النزاع هل يملك الأب بإحرام الولد الرجوع عليه، أو لا يملكه على قولين:
القول الأول: أن الأب يملك الرجوع.
وهو مقتضى مذهب الحنفية; وأحد قولي الشافعية، ومقتضى مذهب الحنابلة; لأنهم يرون أن الإحرام لا يخرج صيد البر من ملك المحرم إذا كان قد تملكه قبل أن يحرم، وإذا كان لا يخرج من ملكه بالإحرام، فإن الوالد لا يفوت عليه الفسخ في الهبة بإحرام الولد; لأن الهبة باقية على ملك الولد.
وحجته:
1- ما تقدم من عموم الأدلة الدالة على جواز رجوع الأب فيما وهب لولده. [ ص: 129 ]
2- أن الصحابة كانوا يحرمون وفي بيوتهم صيود، ولم ينقل عنهم إرسالها.
3- أن ولا تخرج عن ملك المحرم بالإحرام بالإجماع، فكذا الصيد. اللباس، والطيب، والاستمتاع بالزوجة من محظورات الإحرام،
4- أن الأصل بقاء ملك الولد، وخروجه عن ملكه يحتاج إلى دليل.
القول الثاني: أنه لا يملك ذلك.
وهذا هو الأصح عند الشافعية.
وينبغي أن يكون مذهبا للمالكية; لأنهم يرون أن المحرم إذا أحرم وبيده صيد خرج من ملكه، ووجب عليه إرساله.
وحجته: أن شرط رجوع الوالد فيما وهبه لولده بقاء الهبة في ملك الولد، والولد إذا أحرم في هذه الصورة تخرج الهبة من ملكه; لأن المحرم لا يحل له ملك الصيد; لقوله تعالى: وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ، وإذا خرجت من ملك الولد لم يكن للوالد إليها سبيل.
ونوقش: الاستدلال بالآية بأنها إنما وردت في النهي عن التعرض للصيد أثناء التلبس بالإحرام، لا عن تملكه قبل الإحرام; إذ هو مباح.
سبب الخلاف:
من خلال الأقوال وعللها في هذه المسألة يظهر أن سبب الخلاف فيها [ ص: 130 ] الخلاف في كون الإحرام يخرج صيد البر من ملك من صاده قبل أن يحرم، أو لا يخرجه.
الترجيح:
يظهر -والله أعلم بالصواب- أن الراجح في هذه المسألة هو ما ذهب إليه أصحاب القول الأول، وهو أن إحرام الولد لا يمنع على الوالد الرجوع في هبته إذا كان صيد بر; لقوة دليله، ولأن القائلين بوجوب إرساله وزوال ملكه عنه إنما يوجبون ذلك إذا كان بيده المشاهدة دون ما إذا كان بيده الحكمية، ومن قال بوجوب إرساله إذا كان بيده المشاهدة، منهم من قال: ببقاء ملكه، ومنهم من قال: بزواله; مما يدل على ضعف هذا القول. والله أعلم.