الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        الجامع لأحكام الوقف والهبات والوصايا

        خالد المشيقح - أ.د/ خالد بن علي بن محمد المشيقح

        صفحة جزء
        [ ص: 18 ] المبحث الثالث: صورها

        وفيه ثلاثة مطالب:

        المطلب الأول

        الصورة الأولى: أن تكون العمرى بلفظ مطلق -دون ما يشعر بالتأبيد- كأن يقول: أعمرتك هذه الدار، أو يقول: داري لك عمرى، ونحو ذلك، فتصح، لكن اختلف العلماء -رحمهم الله- في العمرى هل هي تمليك للمنافع والذات معا، أم هي تمليك للمنافع فقط؟.

        بعد أن اتفق الأئمة الأربعة على جواز العمرى، اختلفوا فيها من ناحية هل هي تمليك للمنافع والذات معا؟ أو هي تمليك للمنافع فقط؟ وترجع بعد إلى صاحبها المعمر بعد موت المعمر على ثلاثة أقوال:

        القول الأول: أن العمرى هبة للذات، ولا تنصرف إلى المنافع مستقلة عن الذات، بل يملكها المعمر كسائر أمواله، وتورث عنه، ولا ترجع إلى المعمر ولا إلى ورثته مطلقا.

        وقال بذلك جمهور الفقهاء: الحنفية ...، [ ص: 19 ] والشافعية، والحنابلة، والظاهرية.

        وقد استدل أصحاب هذا القول بما يلي:

        1- حديث جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها، فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حيا وميتا، ولعقبه".

        2- حديث جابر -رضي الله عنه- قال: "قضى النبي بالعمرى أنها لمن وهبت له".

        (232) 3- ما رواه مسلم من طريق أبي سلمة، عن جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه، فإنها للذي أعطيها، لا ترجع إلى الذي أعطاها; لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث".

        (233) 4- ما رواه البخاري ومسلم من طريق بشير بن نهيك، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "العمرى جائزة".

        (234) 5- ما رواه أبو داود من طريق عمرو بن دينار، عن طاوس، عن حجر، عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أعمر شيئا فهو لمعمره محياه ومماته، ولا ترقبوا، فمن أرقب شيئا فهو سبيله". [ ص: 20 ]

        وجه الدلالة من هذه الأحاديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أن العمرى هبة مبتوتة للذات والمنافع، وليست هبة للمنافع مستقلة عن الذات.

        (235) 6- ما رواه ابن أبي شيبة من طريق مجاهد قال: قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "العمرى والرقبى سواء" (مجاهد لم يسمع من علي -رضي الله عنه-) .

        (236) 7- ما رواه عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن أبي الزبير، عن طاوس، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "من أعمر شيئا فهو له".

        (237) 8- وروى ابن أبي شيبة من طريق أبي الزبير، عن طاوس، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "العمرى والرقبى سواء".

        (238) 9- ما رواه عبد الرزاق من طريق طاوس، عن حجر المدري، عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال: "العمرى للوارث".

        القول الثاني: أن العمرى هبة المنافع فقط، والذات باقية على ملك [ ص: 21 ] صاحبها، ويكون للموهوب له السكنى فقط في مثل قوله: أعمرتك هذه الدار حياتك، فإذا مات عادت الدار إلى صاحبها، ولا تنتقل إلى صاحبها، ولا تنتقل إلى ورثة المعمر إلا إذا جعلها له ولعقبه، فإنها حينئذ تكون منفعتها لورثته، وبعد ذلك ترجع إلى صاحبها أو إلى ورثته.

        قال بذلك مالك، والليث.

        وحجة هذا القول:

        1- قال تعالى: هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها .

        2- قال تعالى: إنا نحن نرث الأرض ومن عليها .

        قالوا في الاستدلال في هاتين الآيتين: فكذلك كل من أعمر عمرى فقد جعل الشيء المملوك له للغير يعمره مدة حياته; تحقيقا لوظيفة الملك في هذه الحياة.

        ونوقش هذا الاستدلال بما يلي.

        قال ابن حزم: إن هذا بعيد من التوفيق في فهم الدليل; وذلك لما يلي:

        أولا: أنهم قاسوا حكم الناس على حكم الله تعالى فيهم، وهذا باطل; لأن الله تعالى يفعل ما يشاء من أقداره الكونية كالموت والمرض والمصائب، ونحو ذلك، فله الإرادة والحكمة التامة النافذة.

        ثانيا: ليس المراد من الآية الكريمة العمرى بمعنى إعطاء الغير حق [ ص: 22 ] الانتفاع مدة حياة المعمر، أو المعمر، وإنما المراد بذلك أن الله استعمرنا فيها بمعنى: أنه عمرنا بالبقاء فيها مدة، وليس هذا من العمرى في ورد ولا صدر.

        ثالثا: أن هذه الآية لو جعلناها حجة عليهم، لكان ذلك أوضح مما موهوا به، وهو أن الله تعالى - شك- أباح لنا بيع ما ملكنا من الأرض، وجعلها لورثتنا بعدنا، وهذا هو قولنا في العمرى لا قولهم.

        3- قال ابن عبد البر: "ومن أحسن ما احتجوا به أن قالوا: ملك المعمر ثابت بإجماع قبل أن يحدث العمرى، فلما أحدثها، اختلف العلماء، فقال بعضهم: قد أزال لفظه ذلك ملكه عن رقبة ما أعمره، وقال بعضهم: لم يزل ملكه عن رقبة ماله بهذا اللفظ، والواجب بحق النظر أن لا يزول ملكه إلا بيقين وهو الإجماع; لأن الاختلاف لا يثبت به يقين، وقد ثبت أن الأعمال بالنيات، وهذا الرجل لم ينو بلفظه إخراج شيء من ملكه، وقد اشترط فيه شرطا، فهو على شرطه; لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المسلمون على شروطهم".

        التالي السابق


        الخدمات العلمية