الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        الجامع لأحكام الوقف والهبات والوصايا

        خالد المشيقح - أ.د/ خالد بن علي بن محمد المشيقح

        صفحة جزء
        الفصل الثاني: القبض في الهبة

        وفيه مباحث:

        المبحث الأول: أثر القبض في ملك الهبة.

        المبحث الثاني: أثر القبض في لزوم الهبة، واستقرارها.

        المبحث الثالث: أثر لزوم الهبة، واستقرارها.

        المبحث الرابع: شرط القبض، وكيفيته.

        المبحث الخامس: أثر الجنون والإغماء قبل القبض.

        المبحث السادس: أثر الموت قبل القبض وفيه مباحث:

        [ ص: 412 ] [ ص: 413 ] المبحث الأول: أثر القبض في ملك الهبة

        اختلف العلماء في ذلك على قولين:

        القول الأول: أن الهبة تملك بالعقد.

        قال به المالكية، والشافعية في القديم، وهو مذهب الحنابلة، وبه قال أبو ثور، وهو مذهب الظاهرية.

        في مواهب الجليل: "هذا على المشهور من أن الهبة تلزم بالقول، قال ابن عرفة: والمعروف لزوم العطية بعقدها".

        وفي روضة الطالبين: "وأما شروط لزوم الهبة فهو القبض، فلا يحصل الملك في الموهوب والهدية إلا بقبضهما".

        وفي شرح منتهى الإرادات: "وتصح الهبة بعقد، وتملك العين الموهوبة بعقد، أي: بإيجاب وقبول، فالقبض معتبر للزومها، واستمرارها، لا لانعقادها وإنشائها".

        [ ص: 414 ] القول الثاني: أن الهبة لا تملك إلا بالقبض بعد العقد.

        قال به الحنفية، وهو قول للمالكية، وهو قول الشافعية، وبه قال ابن عقيل والمجد من الحنابلة.

        في المبسوط: "الملك لا يثبت في الهبة بالعقد قبل القبض عندنا". وفي الشرح الكبير للدردير: "الهبة تملك بالقول على المشهور". وفي الحاوي الكبير: "المبيع يملك بالعقد، والهبة بالقبض".

        وفي كشاف القناع: "وقال المجد في شرح الهداية: إن الملك في الموهوب لا يثبت بدون القبض، وكذا صرح ابن عقيل بأن القبض ركن من أركان الهبة كالإيجاب في غيرها".

        الأدلة:

        أدلة القول الأول: (أنها تملك بالعقد ) :

        1 - قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود .

        [ ص: 415 ] حيث أمر الله تعالى بالوفاء بالعقد، وعقد الهبة يحصل بالإيجاب والقبول، ولا يؤمر بوفاء العقد إلا لحصول الملك به.

        2 - حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العائد في هبته كالعائد في قيئه".

        3 - حديث ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لأحد يعطي عطية فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده".

        4 - القياس على البيع; فكما يملك المعقود عليه في عقد البيع بمجرد العقد، فكذلك الهبة، "فالأصل في العقود أن لا قبض مشترط في صحتها حتى يقوم الدليل على اشتراط القبض، فعدم الدليل على الاشتراط كاف في الدلالة على الاكتفاء بالعقد.

        5 - أن عدم اشتراط القبض لملك الهبة موافق لمقصد الشارع في الحث عليها; وذلك لعلم المكلف أنه بالقول قد ملك الموهوب له الهبة، وكذلك الصدقة.

        أدلة القول الثاني: (الهبة لا تملك إلا بالقبض ) :

        1 - عن أم كلثوم بنت أبي سلمة قالت: "لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة قال لها: إني أهديت إلى النجاشي أواق من مسك وحلة، وإني لا أراه إلا قد مات، ولا أرى الهدية التي أهديت إليه إلا سترد، فإذا ردت إلي فهو لك، أو لكن، فكان كما قال، هلك النجاشي فلما ردت إليه الهدية أعطى [ ص: 416 ] كل امرأة من نسائه أوقية من ذلك المسك، وأعطى سائره أم سلمة، وأعطاها الحلة".

        وجه الدلالة: أنه لو كانت الهبة تملك قبل القبض لما استجاز الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتملكه، ويتصرف فيه.

        ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:

        الوجه الأول: ضعف الحديث.

        الوجه الثاني: أن الدليل لا ينفي أن تملك الهبة بالعقد بلا قبض، إلا أن للواهب الرجوع، ويأتي بيانه.

        (188 ) 2 - ما رواه الإمام مالك عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه نحلها جذاذ عشرين وسقا من مال بالغابة، فلما حضرته الوفاة قال: "والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إلي غنى بعدي منك، ولا أعز فقرا بعدي منك، وإني كنت نحلتك من مالي جذاذ عشرين وسقا، فلو كنت جددتيه واحتزتيه كان لك ذلك، وإنما هو مال الوارث، وإنما هو أخواك وأختاك، فاقتسموه على كتاب الله... ".

        وجه الدلالة: هي في قوله: "فلو كنت جددتيه واحتزتيه كان لك ذلك"; فلولا توقف الملك على القبض لما قال "إنه مال وارث"، فيدل الأثر على أن الهبة لا تتم إلا بالقبض، فلا تملك إلا به.

        [ ص: 417 ] ونوقش هذا الاستدلال: أن أثر عائشة رضي الله عنها في قول أبي بكر رضي الله عنه لا دلالة فيه على أن الهبة لا تملك بالقبض; بل يدل على أن الهبة لا تلزم إلا بالقبض، وسيأتي.

        2 - أثر عمر رضي الله عنه الآتي.

        وجه الدلالة منه: كأثر عائشة، والإجابة عنه كما سبق.

        3 - أن الهبة عقد تبرع، فلا يثبت الملك فيه بمجرد القبول كالوصية; وذلك أن عقد التبرع ضعيف في نفسه، ولهذا لا يتعلق به صفة اللزوم، والملك الثابت للواهب كان قويا، فلا يزول بالسبب الضعيف حتى ينضم إليه ما يتقوى به، وهو موته في الوصية; لكون الموت منافيا لملكه، وتسليمه في الهبة لإزالة يده عنه، ولو ثبت الملك بدون قبض للزم المتبرع شيء لم يلتزمه، وهو التسليم.

        ونوقش من وجهين:

        الوجه الأول: أن الفارق بين الهبة والبيع من حيث القوة والضعف لا يسلم جعله دليلا على اشتراط القبض لصحة عقد الهبة، فهو تعليل يحتاج إلى ما يسنده من الأدلة الصحيحة السليمة من المعارضة.

        الوجه الثاني: أن تسليم الهبة مفرع على الملك، فإذا ثبت الملك بعقد الواهب لزم منه التسليم، فهو الذي التزم التسليم بعقده.

        الترجيح:

        بعد عرض الأدلة والمناقشات يتبين - والله أعلم - أن الراجح هو القول الأول; وذلك لما يلي: [ ص: 418 ] 1 - لقوة ما استدل به أصحاب هذا القول، وسلامته من الاعتراض.

        2 - وضعف أدلة أصحاب القول الثاني لإمكان مناقشتها.

        [ ص: 419 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية