الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        الجامع لأحكام الوقف والهبات والوصايا

        خالد المشيقح - أ.د/ خالد بن علي بن محمد المشيقح

        صفحة جزء
        المسألة السادسة: الوصية بمرتب من غلة عين معينة من التركة:

        مثل الوصية بألف درهم كل شهر من كراء عمارته الفلانية، أو سيارته الفلانية، ونحو ذلك:

        وفيها أمران: الأمر الأول: الوصية بمرتب من عين يحملها الثلث:

        وفيه فرعان: الفرع الأول: وقف العين الموصى بالمرتب من غلتها:

        اختلف في هذه المسألة على قولين:

        القول الأول: إذا كان المرتب دراهم أو دنانير، فإن الورثة لا يلزمهم إيقاف العين إذا التزموا بالمرتب، وكانوا ثقات مياسير، وإن لم يرض الموصى له بذلك.

        أما إذا كانت الوصية بمرتب من ثمار الأشجار، فإنه يلزمهم إيقاف العين، وإن التزموا بدفع المرتب إلا أن يرضى الموصى له.

        [ ص: 225 ] وهو قول المالكية .

        وحجته:

        1 - الفرق بين المرتب النقدي والمرتب من الثمر: أن الدراهم والدنانير لا تتعلق الأغراض بعينها، فإن التزم الورثة دفعها وهم أمناء لزم الموصى له القبول; لأنه لا فرق بين الدراهم والدنانير من غلة العين الموصى بمرتب من غلتها، وبين الدراهم والدنانير التي يعطيها الورثة من غير غلتها.

        وهذا بخلاف الثمار والزروع، فإن الأغراض تختلف فيها، وتتعلق بعينها.

        2 - الموصى له بنصيب من الثمار شريك في الغلة، فلا يجوز للورثة تحويل حقه إلى غيرها إلا برضاه; لأنها معاوضة فلا يجبر عليها.

        وإذا علم أن مقصود الموصي من الوصية بالمرتب هو المحافظة على حق الموصى له مقسطة خشية تضييعه، لم تجز مصالحته على غيرها، ولو رضي بذلك.

        القول الثاني: أنه يتعين وقف العين بكاملها، ولو كانت تغل أكثر من المرتب، وقيل: يوقف منها بقدر ما تفي غلته بالمرتب; لأن في وقفها كلها ضررا على الورثة.

        وهو مذهب الشافعية والحنابلة .

        وحجته: تعلق حق الموصى له بغلتها، ولاحتمال نقصان الغلة في المستقبل، فلا يبقى ما يفي بالمرتب.

        [ ص: 226 ] والأقرب: أنه لا يلزم وقف العين إذا كان هناك رهن محرز، أو كفيل مليء.

        الفرع الثاني: نقصان الغلة في بعض الأعوام، أو انعدامها: فإن هنا تفصيلا بحسب صيغة الوصية:

        أولا: قد تكون بلفظ يفيد الدفع من الغلة كل سنة أو كل شهر، مثل: أعطوه ألف درهم كل شهر من غلة أرضي الفلانية، فإن هذه الصيغة تفيد إخراج الوصية من جميع الغلة.

        ثانيا: قد تكون الوصية بصيغة تقتضي الدفع من غلة كل سنة أو شهر، مثل أعطوه مئة من غلة كل عام، أو أوصيت له بعشرة من كراء كل شهر.

        ففي الصيغة الأولى: يأخذ الموصى له مرتبه من الغلة الحالة، فإذا لم تغل في السنوات اللاحقة، أو أغلت أقل من مرتبه ، فإنه يرجع على الورثة فيما أخذوه من الغلة السابقة، فإن لم يف بذلك فإنه يرجع في الغلة القادمة ، فإذا أوصى له بألف كل شهر من كراء عمارته، فأكريت بعشرة آلاف، ثم لم تكر في الشهور اللاحقة، فإنه يرجع على الورثة بما أخذوه; لأن الوصية مقدمة على الميراث.

        وإذا كانت الوصية بعشرة أوسق كل سنة من ثمار نخيله، فلم يغل النخل خمس سنوات، ثم أغل بعد ذلك، فإن الموصى له يأخذ وصيته ومرتبه للسنوات الخمس الماضية، وللسنة الحالية، فإن فضل شيء كان للورثة، وإن لم يف محصول هذه السنة بالمرتبات الماضية، فإنه يأخذه كله ويرجع بالباقي في الغلة اللاحقة، إذا لم تف الغلة الحاضرة بمرتبه، أو لم تغل في بعض السنوات.

        [ ص: 227 ] وبالنسبة لإيقاف الغلة الزائدة على المرتب، فإنه لا وجه لوقفها في الصورة الثانية; لأن الموصى له لا رجوع له في الغلة الماضية.

        بخلاف الصورة الأولى، فإنه لما كان له الحق في الرجوع في الغلة الماضية، ويقدم على الورثة فيها، فهل له الحق في المطالبة بوقف الغلة، أو تعجيلها كلها له، خشية أن يستهلك الورثة ما يأخذونه، ولا يجد ما يرجع به عليهم إذا أفلسوا، أو تنقطع الغلة، أو تقل في المستقبل.

        ومذهب الحنفية : أن الغلة توقف ويصرف على الموصى له مرتبه حتى تنتهي الوصية ، فإن فضل شيء من الغلة أعطي للورثة، أو للموصى له بالرقبة ، فقد قالوا فيمن أوصى لرجل من غلة عبده كل شهر بدرهم، وللآخر بثلث ماله، ولا مال له غير العبد: فإن ثلث العبد بينهما نصفان عند أبي حنيفة، وعلى أربعة عند صاحبيه ، إلا أنهم يتفقون على أن نصيب الموصى له بالثلث يسلم إليه، ونصيب الموصى له بالمرتب يحبس، وينفق منه على الموصى له كل شهر درهما، وقوفا مع لفظ الوصية، فإن مات الموصى له بالمرتب، وبقي شيء من الغلة رد ذلك إلى صاحب الرقبة.

        وفرق المالكية بين العين المأمونة غلتها، والعين التي يخشى بوارها، أو نقصان غلتها، كما فرقوا بين الوارث المأمون، وغير المأمون.

        فقالوا: إذا كانت العين الموصى بغلتها مأمونة لا يخشى بوارها، ولا نقصان غلتها عن المرتب، فإن الزائد على المرتب يأخذه الورثة، ولا يوقف; لأنه لا فائدة في وقفه، وفي ذلك ضرر على الورثة بحبس حقهم عنهم.

        وإن كانت العين الموصى بغلتها يخشى أن لا تغل في المستقبل ما يفي بالمرتب، فإنه يوقف من الغلة بقدر ما يخاف نقصه عن المرتب، إلا أن يكون [ ص: 228 ] الوارث مأمونا، غير ملد ولا ممتنع، ورضي أن يأخذ الزائد في ذمته، فيكون أحق به; لأن له فيه شبه الملك، ولا فائدة للموصى له في وقفه.

        وقال عبد الحق: إذا أراد تعجيل مرتبه وشاحه الورثة، فإنه ينبغي أن يكون له بحساب ما مضى من السنة قياسا على كراء الدور والدواب.

        وبالنسبة لهلاك العين الموصى بمرتب من غلتها، فإنها إذا هلكت أو بارت يرجع الموصى له بالمرتب في الغلة الماضية، يستوفي منها مرتبه حتى تنتهي الوصية، فإذا أوصى له بألف درهم كل سنة من غلة عمارته أو سفينته ، فغلت الدار أو السفينة عشرة ملايين في سنتها الأولى، ثم انهدمت الدار أو غرقت السفينة، فإن الموصى له يأخذ مرتبه كاملا مقسطا، سنة بعد سنة من الملايين العشرة حتى تنتهي ويرجع على الورثة، ولا يبطل حقه بهلاك الموصى بمرتب من غلته، إلا إذا هلك ولا غلة له.

        كما أنه إذا هلكت الغلة كلها ولم يبق منها إلا قدر المرتب الموصى به فإن الموصى له يأخذه، عملا بقاعدة تقديم الوصية على الإرث.

        وإن مات أثناء المدة فله من المرتب بحسب ما مضى من المدة.

        الأمر الثاني: في الوصية بمرتب من غلة عين لا يحملها الثلث:

        اختلف فيها الفقهاء:

        القول الأول: أن الورثة يخيرون إما أن يجيزوا الوصية كما هي، وإما أن يعطوا الموصى له الثلث شائعا في كل ما تركه الميت إذا كانت الوصية لمعين، فإن كانت لغير معين كالفقراء والمساكين، فإنهم يخيرون في إجازتها، أو قطع الثلث بتلا في العين الموصى بمرتب من غلتها.

        [ ص: 229 ] وهو مذهب المالكية .

        القول الثاني: أنه يوقف ما يحمله الثلث، وللورثة بيع ما زاد عليه، فإن أغل الثلث الموقوف قدر المرتب، أو أقل فهو للموصى له، وإن أغل أكثر فالزائد للورثة; لأن الوصية بمرتب محدد فلا يزاد عليه.

        وهو مذهب الحنابلة .

        وقال شيخ الإسلام: « ليس للموصى له إلا الأقل من الراتب المسمى أو ثلث غلة العين الموصى بمرتب من غلتها، كمن أوصى بدرهم كل يوم من غلة داره، فإن كانت غلتها ثلاثة دراهم أعطي درهما، وإن كانت أقل من ذلك لم يعط إلا ثلث الغلة، وأما إذا كانت أكثر من ذلك فليس له إلا الدرهم المسمى; لأنه الأقل » .

        وقال الحنفية : يوقف ثلث غلته، وينفق منها على الموصى له بمرتب، فإذا مات دفع ما بقي من الغلة لورثة الميت.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية