[ ص: 257 ] قدم الكلام فيه على الكلام في النهي ، لتقدم الإثبات على النفي ، أو ; لأنه طلب إيجاد الفعل ، والنهي طلب الاستمرار على عدمه ، فقدم الأمر تقديم الموجود على المعدوم ، وهو التقديم بالشرف ، ولو لوحظ التقديم الزماني لقدم النهي تقديم العدم على الموجود ; لأن العدم أقدم . وجمعه الأصوليون على أوامر ، وقد سبق في الفرق بين الحقيقة والمجاز أنه بمعنى القول المخصوص يطلق على أوامر ، وبمعنى الفعل على أمور ، ولم يساعدهم على هذا الجمع من أهل اللغة سوى في الصحاح " ، وأما الجوهري الأزهري فقال في التهذيب " : الأمر ضد النهي واحد الأمور وذكر في المحكم " : أن الأمر لا يكسر على غير أمور ، وأما أئمة النحو قاطبة فلم يذكر أحد منهم أن " فعلا " يكسر على " فواعل " مع ذكرهم الصيغ الشاذة والمشهورة . ابن سيده
وقد تنبه لهذا الموضع الإمام أبو الحسن الإبياري في شرح البرهان " وذكر أن قول شاذ غير معروف عند أئمة العربية . الجوهري قلت : ذكر في كتاب " التعاقب " له نظيرا ، وعلل هاتين اللفظتين أعني أوامر ونواه بما يسوغ إجازتهما ، ثم ذكر ابن جني الإبياري عن بعضهم [ ص: 258 ] أن الأوامر جمع آمر وهذا فيه تجوز ; لأن الآمر حقيقة هو المتكلم ، ونقله إلى المصدر مجاز ، ثم قال : إن المراد الصيغة فإنه قد تسمى الصيغة آمرة تجوزا وإذا كان المفرد فاعله ، صح الجمع على أوامر " فواعل " اسما كان المفرد كفاطمة وفواطم ، أو صفة ككاتبة وكواتب . قال : وهذا بعيد في التجوز ، وليس هو المقصود هاهنا ; إذ الكلام في الأمر الحقيقي لا في الألفاظ . وحكى الأصفهاني في شرح المحصول " عن بعضهم : أن الأوامر جمع الجمع ، فالأوامر أولا جمع جمع قلة على ( أأمر ) بوزن أفعل ثم جمع هذا على أوامر ، نحو كلب وأكالب ، فإنه أفاعل . وفيه نظر ; لأن أوامر ليس أفاعل بل هو فواعل بخلاف أكالب فإنه أفاعل ثم قال الأصفهاني : وهذا لا يتم في النواهي فإن النون فاء الكلمة فيمكن أن يكون ذلك من باب التغليب كما في الغدايا والعشايا ، ويمكن رد النواهي أيضا إلى أنه جمع ناهية مصدر كما تقدم في الآمرة . وفيه نظر ; لأن المصادر مسموعة ، ولا يدخلها القياس . إذا ثبت ذلك فاعلم أن هاهنا مباحث : أحدها : في لفظ الأمر ، والثاني : في مدلوله ، والثالث : في صيغة " افعل " فأما " فإنه يطلق لغة على ضد النهي وهو ظاهر ، ويطلق على الفعل بدليل قوله تعالى : { لفظ " أمر وما أمر فرعون برشيد } أي : فعله ، فإذن لفظ الأمر عام للقول المخصوص والفعل ، وكل لفظ عام لشيئين فصاعدا فلا يخلو إما أن يكون حقيقة في كل واحد ، أو لا ، والثاني مجاز ، والأول إما أن يتفقا في اللغة أيضا ، وهو المتواطئ أو لا يتفقا ، وهو المشترك ، فهذه ثلاث احتمالات قد ذهب إلى كل واحد منها صائر .
[ ص: 259 ] واتفقوا على أن إطلاقه على القول الطالب للفعل حقيقة ، وهو قولك : " افعل " وما يجري مجراه ، واختلفوا في ، على مذاهب : أحدها : أنه حقيقة في الكل فإن القائل لو قال : " أمر " لا يدري السامع أي الأمور أراد فإذا قال : أمر بكذا فهم القول فإذا قال : أمر فلان مستقيم فهم الشأن والطريقة ، فإذا قال : زيد في أمر عظيم فهم الفعل ، وحكاه وقوعه على العقل ونحوه من الشأن والصفة والقصة والمقصود والغرض ابن برهان عن كافة العلماء وحكاه القاضي عبد الوهاب والباجي عن أكثر أصحابنا ، قال صاحب المعتمد " ولهذا قالوا : إن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم على الوجوب ; لأنها داخلة تحت قوله تعالى : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره } .
والثاني : أنه حقيقة في القول مجاز في الفعل ، ووجه العلاقة فيه المشابهة ، فإن الفعل يشبه القول في الافتقار إلى مصدر يصدر به ، وهذا يعم الأفعال والأقوال ، وقيل : لأن جملة أفعال الإنسان لما دخل فيها الأقوال سميت الجملة باسم جزئها ، ونقله في المحصول " عن الجمهور ، وحكاه في الملخص " عن أكثر أصحابهم مع أنه في الإفادة " حكى الأول عنهم ، وعن أصحاب القاضي عبد الوهاب والثاني عن الحنفية خاصة . قال الشافعي الباجي : وإليه ذهب أصحاب أبي حنيفة والمعتزلة ، ونقله صاحب الإفادة " عن ، وحكاه صاحب المعتمد " والمصادر " عن الأكثرين . وحكى صاحب المصادر " عن أحمد بن حنبل الشريف المرتضى أنه حقيقة في القول والفعل مشترك بينهما . وذكر الآمدي وتبعه [ ص: 260 ] قولا على جهة الإلزام أنه متواطئ بينهما . واختار ابن الحاجب أبو الحسين البصري في المعتمد " أنه مشترك بين الشيء والصفة والشأن والطريق وبين جملة الشأن والطريق وبين القول المخصوص . انتهى . وقضيته أنه عنده مشترك بين خمسة أشياء ، لكنه في شرح العمدة " فسر الشأن والطريق بمعنى واحد ، فيكون الحاصل أربعة ، ونقل البيضاوي عنه أنه موضوع للفعل بخصوصه حتى يكون مشتركا ، وهو غلط ، فقد صرح بأنه غير موضوع له ، وإنما يدخل في الشأن . وحكى صاحب المصادر " عن أبي القاسم البستي أنه حقيقة في القول والشأن والطريق دون آحاد الأفعال قال : وهذا هو الأقرب ; لأن من صدر منه فعل قليل غير معتد به ، كتحريك أصابعه وأجفانه فإنه لا يقال : إنه مشغول بأمر ، أو هو في أمر . قال : والذي أداهم إلى هذا البحث في هذه المسألة اختلافهم في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم هل هي على الوجوب أم لا ؟ وقال في شرح اللمع " : الشيخ أبو إسحاق هل تتضمن أمرا ؟ فيه وجهان . أصحهما : لا . وفرع عليه في المحصول " ما لو أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم فإن لا يحنث ، ولو كان حقيقة في غير القول لزم العتق . قال : ولا يعارض هذا بما إذا خرس وأشار فإنه يعتق ; لأنا نمنع هذه المسألة . قال : إن أمرت فلانا فعبدي حر ، ثم أشار بما يفهم منه مدلول الصيغة