والثاني : عكسه . أي : أنه امتنع الأول لامتناع الثاني ، وهو ما صار إليه وصاحبه ابن الحاجب ابن الزملكاني في " البرهان " ; لأن الأول سبب للثاني ، وانتفاء السبب لا يدل على انتفاء المسبب ; لجواز أن يخلفه سبب آخر يتوقف عليه المسبب إلا إذا لم يكن للمسبب سبب سواه ، ويلزم من انتفاء المسبب انتفاء جملة الأسباب لاستحالة ثبوت حكم بدون سبب ، فصح أن يقال : امتنع الأول لامتناع الثاني ألا ترى إلى قوله تعالى : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } كيف سيق للدلالة على انتفاء التعدد لانتقاء الفساد لا ; لأن امتناع الفساد لامتناع التعدد ؟ لأنه خالف المفهوم . ولأن نفي الآلهة غير الله لا يلزم منه فساد العالم .
قيل : وقد خرق إجماع النحويين وبناه على رأيه أن الشروط اللغوية أسباب ، والسبب يقتضي المسبب لذاته ، فيلزم من عدم السبب عدم المسبب ، وهو ضعيف ; لأنه على تقدير تسليم ذلك ، فقد يتخلف لفوات شرط أو وجود مانع ، وعدم مانع ، وعدم سبب آخر شرط في انتفاء المسبب لانتفاء سببه ، لكن السبب الآخر موجود . ثم كيف يصنع بقوله تعالى : { ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم } ؟ فإن المراد نفي السماع وعدم الخير فيه لا العكس ، والتحقيق : أنها تستعمل في كلا المعنيين لكن باعتبارين : باعتبار الوجود والتعليل ، وباعتبار العلم والاستدلال . فتقول : لما كان المجيء علة للإكرام بحسب الوجود فانتفاء الإكرام لانتفاء المجيء انتفاء المعلول لانتفاء العلة ، وأيضا لما لم يعلم انتفاء الإكرام فقد يستدل منه على انتفاء المجيء استدلالا بانتفاء اللازم على انتفاء الملزوم ، وكذا في الآية الشريفة تقول في مقام التعليل : انتفاء الفساد لانتفاء علته . [ ص: 184 ] أي : التعدد في مقام الاستدلال يعلم من انتفاء التعدد انتفاء الفساد ، فمن قال بالأول نظر إلى اعتبار الأول ، ومن قال بالثاني نظر إلى الاعتبار الثاني .
وعلى عبارة الأكثرين فالجملتان بعدها لهما أربعة أحوال : إما أن تكونا موجبتين نحو لو زرتني لأكرمتك فيقتضي امتناعهما ، وإما أن تكونا منفيتين نحو لو لم تزرني لم أكرمك فيقتضي وجودها ، وإنما كان كذلك ; لأن " لو " لما كان معناها الامتناع لامتناع ، وقد دخل الامتناع على النفي فيهما فامتنع النفي ، وإذا امتنع النفي صار إثباتا ، وإما أن تكون إحداهما موجبة والأخرى منفية وتحته صورتان يعلم حكمهما من التي قبلهما . وقد أورد على ذلك مواضع ظن أن جوابها غير ممتنع ، كقوله تعالى : { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون } ، { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام } وقول : " نعم العبد عمر لو لم يخف الله لم يعصه " وغير ذلك . أما لو جرينا على ظاهر العبارة للزم منه عكس المراد . صهيب
ثم تفرق المعترضون الذين رأوا لزوم هذا السؤال ، فمنهم من صار إلى أنها لا تفيد الامتناع بوجه بل لمجرد الربط والتعلق في الماضي كما دلت على أن المتعلق في المستقبل ، وهو قول الشلوبين وابن هشام الخضراوي وابن عصفور وغيرهم ، وتابعهم الإمام فخر الدين محتجا بقوله تعالى : { ولو علم [ ص: 185 ] الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا } . قال : فلو أفادت انتفاء الشيء لانتفاء غيره لزم التناقض ; لأن الأولى تقتضي أنه ما علم فيهم خيرا وما أسمعهم ، والثانية أنه تعالى ما أسمعهم ولا تولوا لكن عدم التولي خير ، فيلزم أن يكون قد علم فيهم خيرا وما علم فيهم خيرا . قال : فعلمنا أن كلمة " لو " لا تفيد إلا الربط ومنهم من توسط بين المقالين ، وقال : إنها تفيد امتناع الشرط خاصة ولا دلالة لها على امتناع الجواب ولا على ثبوته إلا أن الأكثر عدمه ، وهي طريقة ابن مالك .
وسلك القرافي طريقا عجيبا فقال : " لو " كما تأتي للربط تأتي لقطع الربط فتكون جوابا لسؤال محقق أو متوهم وقع فيه قطع الربط فتقطعه أنت لاعتقادك بطلان ذلك ، كما لو قال القائل : لو لم يكن هذا زوجا لم يرث ، فتقول أنت : لو لم يكن زوجا لم يحرم الإرث أي لكونه ابن عم ، وادعى أن هذا يتخلص به عن الإشكال ، وأنه خير من ادعاء أن " لو " بمعنى " أن " لسلامته من ادعاء النقل ومن حذف الجواب . وليس كما قال : فإن كون " لو " مستعملا لقطع الربط لا دليل عليه ولم يصر إليه أحد مع مخالفته الأصل . بخلاف ادعاء أنها بمعنى " أن " أو " أن " والجواب محذوف ، فقد صار إليه جماعة . والظاهر : عبارة الأكثرين لموافقتها غالب الاستعمالات . وأما المواضع التي نقضوا بها عليهم فيمكن الجواب عنها ورجوعها إلى قاعدتهم . أما الآية الأولى : [ ص: 186 ] فالمعنى ما كانوا ليؤمنوا بهذه الأمور ، وامتناع أنهم لا يؤمنون بهذه الأمور صادق بعدم وجدان هذه الأمور ، والأمر كذلك إذ المراد لامتنع إيجابهم لهذا التقدير .
وأما الثانية : فقولهم يلزم نفاد الكلمات عند انتفاء كون ما في الأرض من شجرة أقلاما ، وهو الواقع فيلزم النفاد ، وهو مستحيل . وجوابه : أن النفاد إنما يلزم انتفاؤه لو كان المتقدم مما لا يمكن في العقل أنه مقتض للانتفاء . أما إذا كان مما يتصوره العقل مقتضيا فإنه لا يلزم عند انتفائه أولى وأحرى ، فمعنى " لو " في الآية أنه لو وجد المقتضى لما وجد الحكم لكن لم يوجد فكيف يوجد ؟ وليس المعنى : لكن لم يوجد فوجد لامتناع وجود الحكم بلا مقتض .
والحاصل : أنه لو كان الأمر كذلك لاستقر في العباد ولم يحصل النفاد لكنه لم يمتنع ذلك ; لأنهم ما اعتمدوا البحار لعدم وجودها . وأما الأثر فلما سبق في الذي قبله أن مفهوم الموافقة عارض مفهوم المخالفة ، وبأن المنفي وهو معصيته لا ينشأ عن خوف ; لأن عدم العصيان له سببان الخوف والإجلال ؟ وقد اجتمعا في فلو قدر فيه عدم الخوف لم يعصه ، فكيف وعنده مانع آخر وهو الإجلال فالقصد نفي المعصية بكل حال ، كما يقال : لو كان فلان جاهلا لم يقل هذا ، فكيف وهو عالم ؟ أو يقال : لو لم يخف الله لم يعصه ، فكيف يعصي الله وهو يخافه ؟ وإذا لم يعصه مع عدم الخوف فأولى أن لا يعصيه مع وجوده . ويحكى أن صهيب الشلوبين سئل عن معناه فأنشد قول الشاعر :
فلو أصبحت ليلى تدب على العصا لكان هوى ليلى جديدا أوائله
[ ص: 187 ] يريد أن حبها مطبوع في جبلته فلا يتغير كتغير المحبين ، فكذلك جبلة مطبوعة على الخير فلو لم يخف لم يعص لجبلته الفاضلة . ولا يخفى عليك بعد هذا استعمال مثل هذه الأجوبة في بقية المواضع المعترض بها . صهيب
والضابط : أن تقول : يؤتى بها لثبوت الحكم على تقدير لا يناسب الحكم لتفيد ثبوت الحكم على خلافه الذي يناسبه ، ويكون ذلك من طريق الأولى فيلزم ثبوت الحكم مطلقا . ثم يرد على القائل بالربط وأنها لا تدل على امتناع ألبتة غالب ، الاستعمالات كقوله تعالى : { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني } فإن المعنى والله أعلم ولكن حق القول مني فلم أشأ أو لم أشأ حق القول وقوله تعالى : { ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم } أي : فلم يركهم لذلك { ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض } { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا } { ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم } { ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء } { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا } { ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد } { لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم } { لو كان عرضا قريبا } وغيرها من الآيات ، ومن الحديث : { أبا بكر خليلا } { لو كنت متخذا خليلا [ ص: 188 ] لاتخذت } إلى غير ذلك . ولو يعطى الناس بدعواهم