المسألة الثالثة : قد مر أن الإجماع إذا انعقد على شيء لم يجز مخالفته . وأما إذا جاز لمن بعدهم إحداث دليل آخر من غير إلغاء الأول ، ولا إبطاله ، ولا يكون ذلك خرقا لإجماعهم ; لأنه قد يكون على الشيء أدلة ، فيجوز أن يستدلوا بدليل ، ثم آخر يدل على الحكم أيضا . قاله استدلوا بدليل على حكم أو تأويل لفظ ولم يمنعوا من غيره الصيرفي ، وسليم ، وابن السمعاني ، وغيرهم ، وحكاه ابن القطان عن أكثر أصحابنا ، وإنما الإجماع والاختلاف في الفتوى ، فأما في الدلالة فلا يقال له إجماع ; لأن الأدلة لا يضر اختلافها . قال : وذهب بعض أصحابنا إلى أنه ليس لنا أن نخرج عن دلالتهم ، ويكون إجماعا على الدليل ، لا على الحكم .
والأصح هو الأول ; لأن المطلوب من الأدلة أحكامها لا أعيانها ، ومنعه يسد على المجتهد باب استخراج الأدلة ، ويستلزم منع كل قول لم يتعرض له الأولون . نعم ، إن أجمعوا على إنكار الدليل الثاني لم يجز إحداثه لمخالفته الإجماع . [ ص: 515 ] وحكى صاحب الكبريت الأحمر " مذهبا ثالثا بالوقف ، وذهب وغيره إلى التفصيل بين النص ، فيجوز الاستدلال به ، وبين غيره فلا يجوز ، وذهب ابن حزم ابن برهان إلى خامس ، وهو التفصيل بين الدليل الظاهر فلا يجوز إحداثه وبين الخفي فيجوز ، لجواز اشتباهه على الأولين . ومثل الظاهر بقول ابن أبي طاهر الزيادي من أصحابنا في مسألة ، فلا يجب عليها الكفارة ، قياسا على ما إذا شرب أو أكل . قال : لأن أول الحشفة دخل إلى جوفها قبل دخول تمام الحشفة ، والجماع لا يتحقق إلا إذا تغيب الحشفة . قلنا : ومثل هذا لا يجوز أن يكون مستندا قبل وصول تمام الحشفة ; لأن الناس اختلفوا في هذه المسألة ، فإحداث مثل هذا الدليل لا يجوز ; لأن مثله لا يجوز أن يشتبه على الأولين . هذا كله إذا لم يتعرضوا لذلك الدليل ، فإن نصوا على صحته فلا شك فيه ، أو على فساده لم تجز مخالفتهم ، وإنما الخلاف حيث لم ينصوا على ذلك ، والصحيح الجواز . المطاوعة سبق فطرها جماعها
قال أبو الحسين البصري : إلا أن يكون في صحتها إبطال حكم ما أجمعوا ، وقال سليم : إلا أن يقولوا ليس فيها دليل إلا الذي ذكرناه فيمتنع . قلت : وهذا منهم بناء على صحة ذلك منهم ، وقد سبق في الفصل السادس فيه تفصيل عن القاضي عبد الوهاب . أما إذا اعتلوا بعلة ، وقلنا يجوز تعليل الحكم بعلتين ، فهل يجري مجرى الدليل في الجواز والمنع ؟ [ ص: 516 ] قال ، الأستاذ أبو منصور وسليم في التقريب " : نعم ، هي كالدليل في جواز إحداثها إلا إذا قالوا : لا علة لهذه ، أو لكون العلة الثانية تخالف العلة الأولى في بعض الفروع ، فتكون الثانية حينئذ فاسدة . وقال القاضي عبد الوهاب : ينظر ، فإن كان بحكم عقلي علمنا أن ما عداه ليس بعلة لذلك الحكم ; لأن الحكم العقلي لا يجب بعلتين ، فمن جوزه جعلها كالدليل ، لا يمنع التعدد ، إلا أن ذلك مشروط بأن لا تنافي العلة الثانية علتهم ، وأن لا يؤدي إلى خلافهم فرع من فروع علتهم ; لأنهما إذا تباينا امتنع لذلك ، لا لتعليل بهما ، ومن منع التعليل بعلتين ، فيجب على أصله منع التعليل بعلة غير علتهم ; لأن علتهم مقطوع بصحتها ، وفي ذلك دليل على فساد غيرها . قال : وأما تأويلهم الآتي ، وتخريجهم الأخبار فهو كالمذهب لا كالدليل ; لأن الآية إذا احتملت معاني ، واختلفوا في تأويلها ، أو أجمعوا على تأويل واحد ، صارت كالحادثة ، فلا يعدل عما أفتوا به . وقال الشريف المرتضى : أجمع الأصوليون على التحاق ذلك بالمذاهب لا بالأدلة ، وعندي أنه بالأدلة أشبه ، حتى يجوز قطعا ، ثم مثله بمثال يصح على طريق المعتزلة .