[ ص: 148 ] - 9 - نزول القرآن على سبعة أحرف
لقد كان للعرب لهجات شتى تنبع من طبيعة فطرتهم في جرسها وأصواتها وحروفها تعرضت لها كتب الأدب بالبيان والمقارنة ، فكل قبيلة لها من اللحن في كثير من الكلمات ما ليس للآخرين ، إلا أن قريشا من بين العرب قد تهيأت لها عوامل جعلت للغتها الصدارة بين فروع العربية الأخرى من جوار البيت وسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام والإشراف على التجارة ، فأنزلها العرب جميعا لهذه الخصائص وغيرها منزلة الأب للغاتهم ، فكان طبيعيا أن يتنزل القرآن بلغة قريش على الرسول القرشي تأليفا للعرب وتحقيقا لإعجاز القرآن حين يسقط في أيديهم أن يأتوا بمثله أو بسورة منه .
وإذا كان العرب تتفاوت لهجاتهم في المعنى الواحد بوجه من وجوه التفاوت فالقرآن الذي أوحى الله به لرسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- يكمل له معنى الإعجاز إذا كان مستجمعا بحروفه وأوجه قراءته للخالص منها ، وذلك مما ييسر عليهم القراءة والحفظ والفهم .
ونصوص السنة قد تواترت بأحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف ، ومن ذلك :
عن -رضي الله عنهما- أنه قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابن عباس جبريل على حرف فراجعته ، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف “ . " أقرأني
وعن : أبي بن كعب بني غفار ، قال : فأتاه جبريل فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف . فقال : " أسأل الله معافاته ومغفرته ، وإن أمتي لا تطيق ذلك " ، ثم أتاه الثانية فقال : إن الله يأمرك أن [ ص: 149 ] تقرئ أمتك القرآن على حرفين - فقال : " أسأل الله معافاته ومغفرته ، وإن أمتي لا تطيق ذلك " ، ثم جاءه الثالثة فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف ، فقال : " أسأل الله معافاته ومغفرته ، وإن أمتي لا تطيق ذلك " ، ثم جاءه الرابعة فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف ، فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا “ . " أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان عند أضاة
-رضي الله عنه- قال : " سمعت عمر بن الخطاب يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستمعت لقراءته ، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكدت أساوره في الصلاة ، فانتظرته حتى سلم ، ثم لببته بردائه فقلت : من أقرأك هذه السورة ؟ قال : أقرأنيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت له : كذبت ، فوالله إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤها ، فانطلقت أقوده إلى رسول الله ، فقلت : يا رسول الله . إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها ، وأنت أقرأتني سورة الفرقان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أرسله يا هشام بن حكيم ، اقرأ يا عمر هشام " ، فقرأ هذه القراءة التي سمعته يقرؤها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هكذا أنزلت " ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقرأ يا " ، فقرأت القراءة التي أقرأني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هكذا أنزلت " ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فاقرءوا ما تيسر منها “ عمر . وعن
والأحاديث في ذلك مستفيضة استقرأ معظمها في مقدمة تفسيره ، وذكر ابن جرير السيوطي أنها رويت عن واحد وعشرين صحابيا ، وقد نص على تواتر حديث نزول القرآن على سبعة أحرف . أبو عبيد القاسم بن سلام
واختلف العلماء في تفسير هذه الأحرف اختلافا كثيرا . حتى قال : اختلاف العلماء في المراد بها الترجيح بينها " اختلف أهل العلم في ابن حبان على خمسة وثلاثين قولا " [ ص: 150 ] ، وأكثر هذه الآراء متداخل ، ونحن نورد هنا ما هو ذو بال منها : معنى الأحرف السبعة
أ- ذهب أكثر العلماء إلى أن سبع لغات من لغات العرب في المعنى الواحد ، على معنى أنه حيث تختلف لغات العرب في التعبير عن معنى من المعاني يأتي القرآن منزلا بألفاظ على قدر هذه اللغات لهذا المعنى الواحد ، وحيث لا يكون هناك اختلاف فإنه يأتي بلفظ واحد أو أكثر . المراد بالأحرف السبعة
واختلفوا في تحديد اللغات السبع .
فقيل : هي لغات : قريش ، وهذيل ، وثقيف ، وهوازن ، وكنانة ، وتميم ، واليمن .
وقال : نزل بلغة أبو حاتم السجستاني قريش ، وهذيل ، وتميم ، والأزد ، وربيعة ، وهوازن ، وسعد بن بكر .
وروي غير ذلك .
ب- وقال قوم : إن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات العرب نزل عليها القرآن ، على معنى أنه في جملته لا يخرج في كلماته عن سبع لغات هي أفصح لغاتهم ، فأكثره بلغة قريش ، ومنه ما هو بلغة هذيل ، أو ثقيف ، أو هوازن ، أو كنانة ، أو تميم ، أو اليمن ، فهو يشتمل في مجموعه على اللغات السبع .
وهذا الرأي يختلف عن سابقه ، لأنه يعني أن الأحرف السبعة إنما هي أحرف سبعة متفرقة في سور القرآن ، لا أنها لغات مختلفة في كلمة واحدة باتفاق المعاني .
قال : " ليس المراد أن كل كلمة تقرأ على سبع لغات ، بل اللغات السبع مفرقة فيه ، فبعضه بلغة أبو عبيد قريش ، وبعضه بلغة هذيل ، وبعضه بلغة هوازن ، وبعضه بلغة اليمن ، وغيرهم ، قال : وبعض اللغات أسعد به من بعض وأكثر نصيبا “ .
جـ- وذكر بعضهم أن المراد بالأحرف السبعة أوجه سبعة : من الأمر ، والنهي ، والوعد ، والوعيد ، والجدل ، والقصص ، والمثل . أو من : الأمر ، والنهي ، والحلال ، والحرام ، والمحكم ، والمتشابه ، والأمثال .
[ ص: 151 ] عن عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : " ابن مسعود “ . كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد ، وعلى حرف واحد ، ونزل القرآن من سبعة أبواب ، على سبعة أحرف : زجر ، وأمر ، وحلال ، وحرام ، ومحكم ، ومتشابه ، وأمثال
د- وذهب جماعة إلى أن المراد بالأحرف السبعة ، وجوه التغاير السبعة التي يقع فيها الاختلاف ، وهي :
1- اختلاف الأسماء بالإفراد ، والتذكير وفروعهما : " التثنية ، والجمع ، والتأنيث " كقوله تعالى : والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ، قرئ " لأماناتهم " بالجمع ، وقرئ " لأمانتهم " بالإفراد . . ورسمها في الصحف " لأمنتهم " يحتمل القراءتين ، لخلوها من الألف الساكنة ، ومآل الوجهين في المعنى الواحد ، فيراد بالجمع الاستغراق الدال على الجنسية ، ويراد بالإفراد الجنس الدال على معنى الكثرة ، أي جنس الأمانة ، وتحت هذا جزئيات كثيرة .
2- الاختلاف في وجوه الإعراب ، كقوله تعالى : ما هذا بشرا ، قرأ الجمهور بالنصب ، على أن " ما " عاملة عمل " ليس " وهي لغة أهل الحجاز وبها نزل القرآن ، وقرأ : " ما هذا بشر " بالرفع ، على لغة ابن مسعود بني تميم ، فإنهم لا يعملون " ما " عمل " ليس " وكقوله : فتلقى آدم من ربه كلمات - " برفع " آدم " وجر " كلمات " " - وقرئ بنصب " آدم " ورفع " كلمات " : " فتلقى آدم من ربه كلمات " .
3- الاختلاف في التصريف : كقوله تعالى : فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا ، قرئ بنصب " ربنا " على أنه منادى مضاف ، و " باعد " بصيغة الأمر ، وقرئ " ربنا " بالرفع ، و " باعد " بفتح العين ، على أنه فعل ماض ، وقرئ " بعد " بفتح العين مشددة مع رفع " ربنا " أيضا .
ومن ذلك ما يكون بتغيير حرف ، مثل " يعلمون ، وتعلمون "
[ ص: 152 ] بالياء والتاء ، و " الصراط " و " السراط " في قوله تعالى : اهدنا الصراط المستقيم .
4- الاختلاف بالتقديم والتأخير ، إما في الحرف ، كقوله تعالى : أفلم ييأس وقرئ " أفلم يأيس " وإما في الكلمة كقوله تعالى : فيقتلون ويقتلون بالبناء للفاعل في الأول ، وللمفعول في الثاني ، وقرئ بالعكس ، أي بالبناء للمفعول في الأول ، وللفاعل في الثاني .
أما قراءة " وجاءت سكرة الحق بالموت " بدلا من قوله تعالى : وجاءت سكرة الموت بالحق ، فقراءة أحادية أو شاذة ، لم تبلغ درجة التواتر .
5- الاختلاف بالإبدال : سواء أكان إبدال حرف بحرف . كقوله تعالى : وانظر إلى العظام كيف ننشزها ، قرئ بالزاي المعجمة مع ضم النون ، وقرئ بالراء المهملة مع فتح النون ، أو إبدال لفظ بلفظ ، كقوله تعالى : كالعهن المنفوش ، قرأ وغيره " كالصوف المنفوش " ، وقد يكون هذا الإبدال مع التقارب في المخارج كقوله تعالى : ابن مسعود وطلح منضود ، قرئ " طلع " ومخرج الحاء والعين واحد ، فهما من حروف الحلق .
6- الاختلاف بالزيادة والنقص : فالزيادة كقوله تعالى : أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، قرئ " من تحتها الأنهار " بزيادة " من " وهما قراءتان متواترتان ، والنقصان كقوله تعالى : " قالوا اتخذ الله ولدا " بدون واو ، وقراءة الجمهور وقالوا اتخذ الله ولدا ، وبالواو . وقد يمثل للزيادة في قراءة الآحاد ، بقراءة : " وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا " بزيادة " صالحة " وإبدال كلمة " أمام " بكلمة " وراء " وقراءة الجمهور : ابن عباس وكان [ ص: 153 ] وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ، كما يمثل للنقصان بقراءة " والذكر والأنثى " بدلا من قوله تعالى : وما خلق الذكر والأنثى .
7- اختلاف اللهجات بالتفخيم والترقيق ، والفتح والإمالة ، والإظهار والإدغام ، والهمز والتسهيل ، والإشمام ونحو ذلك ، كالإمالة وعدمها في مثل قوله تعالى : وهل أتاك حديث موسى ، قرئ بإمالة " أتى " و " موسى " وترقيق الراء في قوله : " خبيرا بصيرا " ، وتفخيم اللام في " الطلاق " وتسهيل الهمزة في قوله : " قد أفلح " ، وإشمام الغين ضمة مع الكسر في قوله تعالى : وغيض الماء وهكذا .
هـ- وذهب بعضهم إلى أن العدد سبعة لا مفهوم له ، وإنما هو رمز إلى ما ألفه العرب من معنى الكمال في هذا العدد ، فهو إشارة إلى القرآن في لغته وتركيبه كأنه حدود وأبواب لكلام العرب كله مع بلوغه الذروة في الكمال ، فلفظ السبعة يطلق على إرادة الكثرة والكمال في الآحاد ، كما يطلق السبعون في العشرات ، والسبعمائة في المائتين ، ولا يراد العدد المعين .
و- وقال جماعة : إن المراد بالأحرف السبعة ، القراءات السبع .
والراجح من هذه الآراء جميعا هو الرأي الأول ، وأن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات العرب في المعنى الواحد . نحو : أقبل وتعال ، وهلم ، وعجل ، وأسرع ، فهي ألفاظ مختلفة لمعنى واحد ، وإليه ذهب ، سفيان بن عيينة ، وابن جرير ، وخلائق ، ونسبه وابن وهب لأكثر العلماء ويدل له ما جاء في حديث ابن عبد البر : أبي بكرة جبريل قال : يا محمد ، اقرأ القرآن على حرف ، فقال ميكائيل : استزده ، فقال : على حرفين ، حتى بلغ ستة أو سبعة أحرف ، فقال : كلها شاف كاف ، ما لم يختم آية عذاب بآية رحمة ، أو آية رحمة بآية عذاب ، [ ص: 154 ] كقولك : هلم وتعال وأقبل واذهب وأسرع وعجل “ ، قال " أن : " إنما أراد بهذا ضرب المثل للحروف التي نزل القرآن عليها ، وأنها معان متفق مفهومها ، مختلف مسموعها ، لا يكون في شيء منها معنى وضده ، ولا وجه يخالف معنى وجه خلافا ينفيه ويضاده ، كالرحمة التي هي خلاف العذاب “ . ابن عبد البر
ويؤيده أحاديث كثيرة :
-رضي الله عنه- فغير عليه ، فقال : لقد قرأت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يغير علي ، قال : فاختصما عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال : يا رسول الله ، ألم تقرئني آية كذا وكذا ؟ قال : بلى ! قال : فوقع في صدر عمر بن الخطاب شيء ، فعرف النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك في وجهه ، قال : فضرب صدره وقال : " أبعد شيطانا " -قالها ثلاثا- ثم قال : " يا عمر ، إن القرآن كله صواب ما لم تجعل رحمة عذابا أو عذابا رحمة “ عمر . " قرأ رجل عند
وعن : " بسر بن سعيد أبا جهيم الأنصاري أخبره : أن رجلين اختلفا في آية من القرآن ، فقال هذا : تلقيتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال الآخر : تلقيتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسألا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن القرآن نزل على سبعة أحرف ، فلا تماروا في القرآن ، فإن المراء فيه كفر “ . أن
وعن قال : " قرأ الأعمش هذه الآية : " إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأصوب قيلا “ ، فقال له بعض القوم : يا أنس ، إنما هي " وأقوم " فقال : أقوم وأصوب وأهيأ واحد “ . أبا حمزة
[ ص: 155 ] وعن قال : نبئت محمد بن سيرين جبرائيل وميكائيل أتيا النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له جبرائيل : اقرأ القرآن على حرفين ، فقال له ميكائيل : استزده ، قال : حتى بلغ سبعة أحرف ، قال محمد : " لا تختلف في حلال ولا حرام ، ولا أمر ولا نهي هو كقولك : تعال ، وهلم ، وأقبل " ، قال : وفي قراءتنا : أن إن كانت إلا صيحة واحدة ، في قراءة : " إن كانت إلا زقية واحدة “ . ابن مسعود
ويجاب عن الرأي الثاني " ب " الذي يرى أن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات العرب نزل عليها القرآن ، على معنى أنه في جملته لا يخرج في كلماته عنها فهو يشتمل في مجموعه عليها - بأن لغات العرب أكثر من سبع ، وبأن عمر بن الخطاب كلاهما قرشي من لغة واحدة ، وقبيلة واحدة ، وقد اختلفت قراءتهما . ومحال أن ينكر عليه وهشام بن حكيم لغته ، فدل ذلك على أن المراد بالأحرف السبعة غير ما يقصدونه ، ولا يكون هذا إلا باختلاف الألفاظ في معنى واحد ، وهو ما نرجحه . عمر
قال بعد أن ساق الأدلة ، مبطلا هذا الرأي : " بل الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ، هن لغات سبع في حرف واحد ، وكلمة واحدة ، باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني ، كقول القائل : هلم ، وأقبل ، وتعال ، وإلي ، وقصدي ، ونحوي ، وقربي ، ونحو ذلك ، مما تختلف فيه الألفاظ بضروب من المنطق وتتفق فيه المعاني ، وإن اختلفت بالبيان به الألسن ، كالذي روينا آنفا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعمن روينا ذلك عنه من الصحابة ، أن ذلك بمنزلة قولك : " هلم وتعال وأقبل " ، وقوله : " ما ينظرون إلا زقية " و " إلا صيحة " . ابن جرير الطبري
وأجاب عن تساؤل مفترض : ففي أي كتاب الله نجد حرفا واحدا مقروءا بلغات سبع مختلفات الألفاظ متفقات المعنى ؟ أجاب : بأننا لم ندع أن ذلك موجود اليوم وعن تساؤل مفترض آخر : فما بال الأحرف الأخر الستة غير موجودة ؟ - بأن الأمة أمرت بحفظ القرآن ، وخيرت في قراءته وحفظه بأي تلك [ ص: 156 ] الأحرف السبعة شاءت كما أمرت ، ثم دعت الحاجة إلى التزام القراءة بحرف واحد مخافة الفتنة في زمن الطبري ، ثم اجتمع أمر الأمة على ذلك ، وهي معصومة من الضلالة . عثمان
ويجاب عن الرأي الثالث " جـ " الذي يرى أن المراد بالأحرف السبعة سبعة أوجه : من الأمر ، والنهي والحلال ، والحرام ، والمحكم ، والمتشابه ، والأمثال - بأن ظاهر الأحاديث يدل على أن المراد بالأحرف السبعة أن الكلمة تقرأ على وجهين أو ثلاثة إلى سبعة توسعة للأمة ، والشيء الواحد لا يكون حلالا وحراما في آية واحدة ، والتوسعة لم تقع في تحريم حلال ، ولا تحليل حرام ، ولا في تغيير شيء من المعاني المذكورة .
والذي ثبت في الأحاديث السابقة أن الصحابة الذين اختلفوا في القراءة احتكموا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فاستقرأ كل رجل منهم ، ثم صوب جميعهم في قراءتهم على اختلافها ، حتى ارتاب بعضهم لتصويبه إياهم ، فقال صلى الله عليه وسلم للذي ارتاب منهم عند تصويبه جميعهم : . " إن الله أمرني أن أقرأ على سبعة أحرف "
" ومعلوم أن تماريهم فيما تماروا فيه من ذلك ، لو كان تماريا واختلافا فيما دلت عليه تلاواتهم من التحليل والتحريم والوعد والوعيد وما أشبه ذلك ، لكان مستحيلا أن يصوب جميعهم ، ويأمر كل قارئ منهم أن يلزم قراءته في ذلك على النحو الذي هو عليه ، لأن ذلك لو جاز أن يكون صحيحا وجب أن يكون الله جل ثناؤه قد أمر بفعل شيء بعينه وفرضه ، في تلاوة من دلت تلاوته على فرضه ، ونهى عن فعل ذلك الشيء بعينه وزجر عنه ، في تلاوة الذي دلت تلاوته على النهي والزجر عنه ، وأباح وأطلق فعل ذلك الشيء بعينه ، وجعل لمن شاء من عباده أن يفعله فعله . ولمن شاء منهم أن يتركه تركه ، في تلاوة من دلت تلاوته على التخيير .
وذلك من قائله -إن قاله- إثبات ما قد نفى الله جل ثناؤه عن تنزيله ومحكم كتابه فقال : أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا .
[ ص: 157 ] وفي نفي الله جل ثناؤه ذلك عن محكم كتابه أوضح الدليل على أنه لم ينزل كتابه على لسان محمد -صلى الله عليه وسلم- إلا بحكم واحد متفق في جميع خلقه لا بأحكام فيهم مختلفة “ .
ويجاب عن الرأي الرابع " د " الذي يرى أن المراد بالأحرف السبعة وجوه التغاير التي يقع فيها الاختلاف ; بأن هذا وإن كان شائعا مقبولا لكنه لا ينهض أمام أدلة الأول التي جاء التصريح فيها باختلاف الألفاظ مع اتفاق المعنى ، وبعض وجوه التغاير والاختلاف التي يذكرونها ورد بقراءات الآحاد ، ولا خلاف في أن كل ما هو قرآن يجب أن يكون متواترا ، وأكثرها يرجع إلى شكل الكلمة أو كيفية الأداء مما لا يقع به التغاير في اللفظ ، كاختلاف في الإعراب ، أو التصريف ، أو التفخيم والترقيق والفتح والإمالة والإظهار والإدغام والإشمام فهذا ليس من الاختلاف الذي يتنوع في اللفظ والمعنى ، لأن هذه الصفات المتنوعة في أدائه لا تخرجه عن أن يكون لفظا واحدا .
وأصحاب هذا الرأي يرون أن المصاحف العثمانية قد اشتملت على الأحرف السبعة كلها ، بمعنى أنها مشتملة على ما يحتمله رسمها من هذه الأحرف ، فآية : والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون . التي تقرأ بصيغة الجمع وتقرأ بصيغة الإفراد جاءت في الرسم العثماني لأمنتهم -موصولة وعليها ألف صغيرة- وآية : فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا ، جاءت في الرسم العثماني بعد - موصولة كذلك وعليها ألف صغيرة ، وهكذا . .
وهذا لا يسلم لهم في كل وجه من وجوه الاختلاف التي يذكرونها .
كالاختلاف بالزيادة والنقص ، في مثل قوله تعالى : وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار . وقرئ : " من تحتها الأنهار " بزيادة " من " وقوله : [ ص: 158 ] وما خلق الذكر والأنثى ، وقرئ : " والذكر والأنثى " بنقص " ما خلق " .
والاختلاف بالتقديم والتأخير في مثل قوله تعالى : وجاءت سكرة الموت بالحق ، وقرئ : " وجاءت سكرت الحق بالموت " . . والاختلاف بالإبدال في مثل قوله تعالى : وتكون الجبال كالعهن المنفوش ، وقرئ : " وتكون الجبال كالصوف المنفوش " .
ولو كانت هذه الأحرف تشتمل عليها المصاحف العثمانية لما كان مصحف حاسما للنزاع في اختلاف القراءات ، إنما كان حسم هذا النزاع بجمع الناس على حرف واحد من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ، ولولا هذا لظل الاختلاف في القراءة قائما ، ولما كان هناك فرق بين جمع عثمان وجمع عثمان . والذي دلت عليه الآثار أن جمع أبي بكر -رضي الله عنه- للقرآن كان نسخا له على حرف واحد من الحروف السبعة حتى يجمع المسلمين على مصحف واحد ، حيث رأى أن القراءة بالأحرف السبعة كانت لرفع الحرج والمشقة في بداية الأمر . وقد انتهت الحاجة إلى ذلك ، وترجح عليها حسم مادة الاختلاف في القراءة ، بجمع الناس على حرف واحد ، ووافقه الصحابة على ذلك . فكان إجماعا . ولم يحتج الصحابة في أيام عثمان أبي بكر إلى جمع القرآن على وجه ما جمعه وعمر ، لأنه لم يحدث في أيامهما من الخلاف فيه ما حدث في زمن عثمان ، وبهذا يكون عثمان قد وفق لأمر عظيم . رفع الاختلاف ، وجمع الكلمة ، وأراح الأمة . عثمان
ويجاب عن الرأي الخامس " هـ " الذي يرى أن العدد سبعة لا مفهوم له ، بأن الأحاديث تدل بنصها على حقيقة العدد وانحصاره : جبريل على حرف ، فراجعته ، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف “ ، " أقرأني . فهذا يدل على حقيقة العدد المعين المحصور في سبعة . " وإن ربي أرسل إلي أن اقرأ القرآن على حرف ، فرددت عليه أن هون على أمتي ، فأرسل إلي أن اقرأ على سبعة أحرف “
[ ص: 159 ] ويجاب عن الرأي السادس " و " الذي يرى أن المراد بالأحرف السبعة القراءات السبع ، بأن القرآن غير القراءات ، فالقرآن : هو الوحي المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- للبيان والإعجاز ، والقراءات : هي اختلاف في كيفية النطق بألفاظ الوحي ، من تخفيف أو تثقيل أو مد أو نحو ذلك ، قال أبو شامة : " ظن قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث ، وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة ، وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل “ .
وقال : " وأما ما كان من اختلاف القراءة في رفع حرف وجره ونصبه وتسكين حرف وتحريكه ونقل حرف إلى آخر مع اتفاق الصورة ، فمن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : الطبري بمعزل ، لأنه معلوم أنه لا حرف من حروف القرآن مما اختلفت القراءة في قراءته بهذا المعنى يوجب المراء به كفر المماري به في قول أحد من علماء الأمة ، وقد أوجب عليه الصلاة والسلام بالمراء فيه الكفر ، من الوجه الذي تنازع فيه المتنازعون إليه ، وتظاهرت عنه بذلك الرواية " . " أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف "
ولعل الذي أوقعهم في هذا الخطأ الاتفاق في العدد سبعة ، فالتبس عليهم الأمر . قال ابن عمار : " لقد فعل مسبع هذه السبعة ما لا ينبغي له ، وأشكل الأمر على العامة بإيهامه كل من قل نظره أن هذه القراءات هي المذكورة في الخبر ، وليته إذا اقتصر نقص على السبعة أو زاد ليزيل الشبهة " .
وبهذه المناقشة يتبين لنا أن الرأي الأول " أ " الذي يرى أن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات العرب في المعنى الواحد هو الذي يتفق مع ظاهر النصوص ، وتسانده الأدلة الصحيحة .
قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله أمرني أن أقرأ القرآن على حرف واحد ، فقلت : رب خفف عن أمتي ، فأمرني ، قال : اقرأ على حرفين ، فقلت : رب خفف عن أمتي ، فأمرني أن أقرأه على سبعة أحرف من سبعة أبواب الجنة ، كلها شاف كاف “ أبي بن كعب . عن
[ ص: 160 ] قال : " والسبعة الأحرف : هو ما قلنا من أنه الألسن السبعة ، والأبواب السبعة من الجنة هي المعاني التي فيها ، من الأمر والنهي والترغيب والترهيب والقصص والمثل ، التي إذا عمل بها العامل ، وانتهى إلى حدودها المنتهى ، استوجب به الجنة ، وليس -والحمد لله في قول من قال ذلك من المتقدمين- خلاف لشيء مما قلناه " ومعنى : " كلها شاف كاف " كما قال جل ثناؤه في صفة القرآن : الطبري يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين . . جعله الله للمؤمنين شفاء ، يستشفون بمواعظه من الأدواء العارضة لصدورهم من وساوس الشيطان وخطراته ، فيكفيهم ويغنيهم عن كل ما عداه من المواعظ ببيان آياته “ .
"