[ ص: 186 ] الوجه الثالث والعشرون وقد أنكر قوم وقوع المجاز فيه، وقالوا: إنه أخو الكذب، والقرآن منزه عنه، وإن المتكلم لا يعدل إليه إلا إذا ضاقت الحقيقة فيستعير، وذلك محال على الله تعالى. وهذه شبهة باطلة، ولو سقط المجاز من القرآن سقط منه شطر الحسن، فقد اتفق البلغاء على أن المجاز أبلغ من الحقيقة، ولو وجب خلو القرآن عن المجاز وجب خلوه من الحذف والتوكيد وتكنية القصص وغيرها. وقد أفرده بالتصنيف من وجوه إعجازه (وقوع الحقائق والمجاز فيه) الإمام عز الدين بن عبد السلام، ولخصته مع زيادات كثيرة في كتاب سميته " مجاز الفرسان إلى ويسمى مجاز الإسناد، والمجاز العقلي، وعلاقته الملابسة، وذلك أن يسند الفعل أو شبهه إلى غير ما هو له أصالة لملابسته له، كقوله تعالى: مجاز القرآن ". وهو قسمان: الأول: المجاز في التركيب، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا .: نسبت الزيادة، وهي فعل الله تعالى، إلى الآيات لكونها سببا لها. يذبح أبناءهم يا هامان ابن لي ، نسب الذبح، وهو فعل الأعوان، إلى فرعون، والبناء وهو فعل العملة، إلى هامان، لكونهما آمرين به. وكذا قوله: وأحلوا قومهم دار البوار . نسب الإحلال إليهم لتسببهم في كفرهم بأمرهم إياهم به. ومنه قوله تعالى: يوما يجعل الولدان شيبا . نسب الفعل إلى الظرف لوقوعه فيه. عيشة راضية . أي مرضية. فإذا عزم الأمر : أي عزم عليه، بدليل: فإذا عزمت [ ص: 187 ] وهذا القسم أربعة أنواع: أحدها: ما طرفاه حقيقيان، كالآية المصدر بها، وكقوله: وأخرجت الأرض أثقالها . والثاني: مجازيان، نحو: فما ربحت تجارتهم ، أي ما ربحوا فيها. وإطلاق الربح والتجارة هنا مجاز. ثالثها ورابعها: ما أحد طرفيه حقيقي دون الآخر، إما الأول أو الثاني. كقوله: أم أنزلنا عليهم سلطانا ، أي برهانا. كلا إنها لظى نزاعة للشوى تدعو من أدبر وتولى . فإن الدعاء من النار مجاز. وكقوله: حتى تضع الحرب أوزارها . تؤتي أكلها كل حين . فأمه هاوية ، فاسم الأم هاوية مجاز، أي أن الأم كافلة لولدها ملجأ له، كذلك النار للكافرين كافلة ومأوى ومرجع. القسم الثاني: أحدها: الحذف، وسيأتي مبسوطا في نوع الإيجاز، فهو به أجدر، خصوصا إذا قلنا: إنه ليس من أنواع المجاز. الثاني: إطلاق اسم الجزء على الكل، نحو: المجاز في المفرد، ويسمى المجاز اللغوي، وهو استعمال اللفظ في غير ما وضع له أولا، وأنواعه كثيرة: ويبقى وجه ربك ، أي ذاته. فولوا وجوهكم شطره ، أي ذواتكم، إذ الاستقبال يجب بالصدر. ووجوه يومئذ باسرة ، وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة . عبر بالوجوه عن جميع الأجساد، لأن التنعم والنصب حاصل لكليهما. ذلك بما قدمت يداك . فبما كسبت أيديكم ، أي قدمتم وكسبتم. نسب ذلك إلى الأيدي، لأن أكثر الأعمال تتناول بها. قم الليل ، وقرآن الفجر . واركعوا مع الراكعين . ومن الليل فاسجد له . أطلق كلا من القراءة [ ص: 188 ] والقيام والركوع والسجود على الصلاة وهو بعضها. هديا بالغ الكعبة ، أي الحرم كله، بدليل أنه لا يذبح فيها. الثالث: إطلاق اسم الكل على الجزء، نحو: يجعلون أصابعهم في آذانهم ، أي أناملهم، ونكتة التعبير عنها بالأصابع الإشارة إلى إدخالها على غير المعتاد، مبالغة من الفرار، فكأنهم جعلوا فيها الأصابع. وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم ، أي وجوههم، لأنه لم ير جملتهم. فمن شهد منكم الشهر فليصمه . أطلق الشهر، وهو اسم لثلاثين ليلة، وأراد جزءا منه، كذا أجاب به الإمام فخر الدين عن استشكال أن الجزء إنما يكون بعد تمام الشرط، والشرط أن يشهد الشهر، وهو اسم لكله حقيقة، فكأنه أمر بالصوم بعد مضي الشهر، وليس كذلك. وقد فسره علي وابن عباس وابن عمر على أن المعنى من شهد أول الشهر فليصم جميعه، وإن سافر في أثنائه. أخرجه ابن جرير وغيرهما، وهو أيضا من هذا النوع، ويصلح أن يكون من نوع الحذف. وابن أبي حاتم
تنبيه: ألحق بهذين النوعين شيئان: أحدهما: وصف البعض بصفة الكل، كقوله: ناصية كاذبة خاطئة . والخطأ صفة الكل، وصف به الناصية. وعكسه: كقوله: إنا منكم وجلون ، والوجل صفة القلب. ولملئت منهم رعبا . والرعب إنما يكون في القلب. والثاني: إطلاق لفظ بعض مرادا به الكل، ذكره أبو عبيدة وخرج عليه قوله: ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه ، أي كله. وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم . وتعقب بأنه لا [ ص: 189 ] يجب على النبي بيان ما اختلف فيه، بدليل الساعة والروح ونحوهما، وبأن موسى كان وعدهم بعذاب ذكره في الدنيا والآخرة، فقال: يصبكم بعذاب في الدنيا - وهو بعض الوعيد - من غير نفي عذاب الآخرة. ذكره قال ثعلب. الزركشي: ويحتمل أيضا أن يقال: إن الوعيد مما لا يستنكر ترك جميعه. فكيف بعضه، ويؤيد ما قاله ثعلب قوله: فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون . الرابع: إطلاق اسم الخاص على العام، نحو، إنا رسول رب العالمين . الخامس: عكسه، نحو: ويستغفرون لمن في الأرض ، أي للمؤمنين، بدليل قوله: ويستغفرون للذين آمنوا . السادس: إطلاق اسم الملزوم على اللازم. السابع: عكسه، نحو: هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة ، أي هل يفعل - أطلق اسم الاستطاعة على الفعل، لأنها لازمة له. الثامن: إطلاق المسبب على السبب، نحو: وينزل لكم من السماء رزقا . قد أنزلنا عليكم لباسا ، أي مطرا يتسبب عنه الرزق واللباس. لا يجدون نكاحا ، أي مؤونة من مهر ونفقة وما لا بد للمتزوج منه. التاسع: عكسه، وهو نحو: ما كانوا يستطيعون السمع ، أي القبول والعمل به، لأنه متسبب عن السمع. تنبيه من ذلك نسبة الفعل إلى سبب السبب، كقوله: فأخرجهما مما كانا فيه . كما أخرج أبويكم من الجنة ، فإن المخرج في الحقيقة هو الله، وسبب ذلك أكل الشجرة، وسبب الأكل وسوسة الشيطان. [ ص: 190 ] العاشر: تسمية الشيء باسم ما كان عليه، نحو: وآتوا اليتامى أموالهم ، أي الذين كانوا يتامى، إذ لا يتم بعد البلوغ. فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن ، أي الذين كانوا أزواجهن. من يأت ربه مجرما . سماه مجرما باعتبار ما كان عليه في الدنيا من الإجرام. الحادي عشر: تسميته باسم ما يؤول إليه، إني أراني أعصر خمرا . أي عنبا يؤول إلى الخمرية. ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ، أي صائرا إلى الكفر والفجور. حتى تنكح زوجا غيره . سماه زوجا لأن العقد يؤول إلى زوجية لأنها لا تنكح في حال كونها زوجا. فبشرناه بغلام حليم . نبشرك بغلام عليم . وصفه في حال البشارة بما يؤول إليه من العلم والحلم. الثاني عشر: إطلاق اسم الحال على المحل، نحو: ففي رحمة الله هم فيها خالدون ، أي في الجنة، لأنها محل الرحمة. بل مكر الليل والنهار ، أي في الليل. إذ يريكهم الله في منامك قليلا ، أي عينك، على قول الحسن. الثالث عشر: عكسه، نحو: فليدع ناديه ، أي أهل ناديه، أي مجلسه. ومنه التعبير باليد عن القدرة، نحو: بيده الملك . وبالقلب عن العقل، نحو: لهم قلوب لا يفقهون بها ، أي عقول. وبالأفواه عن الألسن، نحو: وتقولون بأفواهكم . وبالقرية عن ساكنيها، نحو: واسأل القرية . وقد اجتمع هذا النوع وما قبله في قوله تعالى: خذوا زينتكم عند كل مسجد ، فإن أخذ الزينة غير ممكن، لأنها مصدر، فالمراد محلها، فأطلق عليه اسم الحال. وأخذها للمسجد نفسه لا يجب، فالمراد به الصلاة، فأطلق اسم المحل على الحال. [ ص: 191 ] الرابع عشر: تسمية الشيء باسم آلته، نحو: واجعل لي لسان صدق في الآخرين ، أي ثناء حسنا، لأن اللسان آلته. وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ، أي بلغة قومه. الخامس عشر: تسمية الشيء باسم ضده، نحو: فبشرهم بعذاب أليم ، والبشارة حقيقة في الخبر السار. ومنه تسمية الداعي إلى الشيء باسم الصارف عنه، ذكره السكاكي وخرج عليه قوله تعالى: ما منعك ألا تسجد . يعني ما دعاك إلى ألا تسجد. وسلم بذلك من دعوى زيادة لا. السادس عشر: إضافة الفعل إلى ما لا يصح منه تشبيها، نحو: جدارا يريد أن ينقض ، وصفه بالإرادة، وهي من صفات الحي تشبيها لميله للوقوع بإرادته. السابع عشر: إطلاق الفعل والمراد مشارفته ومقاربته وإرادته، نحو: فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن ، أي قاربن بلوغ الأجل، أي انقضاء العدة، لأن الإمساك لا يكون بعده، وهو في قوله: فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن - حقيقة. فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ، أي فإذا قرب مجيئه. وبه يندفع السؤال المشهور فيها: إنه عند مجيء الأجل لا يتصور تقديم ولا تأخير. وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ، أي لو قاربوا أن يتركوا خافوا. لأن الخطاب للأوصياء، وإنما يتوجه إليهم قبل الترك، لأنهم بعده أموات. إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ، أي أردتم القيام. فإذا قرأت القرآن فاستعذ ، أي أردت القراءة، لتكون الاستعاذة قبلها. وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا ، أي أردنا إهلاكها، وإلا لم يصح العطف بالفاء. وجعل منه بعضهم قوله: من يهد الله فهو المهتدي ، أي من يرد الله هدايته، وهو حسن جدا لئلا يتحد الشرط والجزاء. [ ص: 192 ] الثامن عشر: القلب، وهو إما قلب إسناد، نحو: إن مفاتحه لتنوء بالعصبة ، أي لتنوء العصبة بها. لكل أجل كتاب . أي لكل كتاب أجل. وحرمنا عليه المراضع من قبل ، أي حرمناه على المراضع. ويوم يعرض الذين كفروا على النار ، أي تعرض النار عليهم، لأن المعروض عليه هو الذي له الاختيار. وإنه لحب الخير لشديد . أي وإن حبه للخير. وإن يردك بخير ، أي يريد بك الخير. فتلقى آدم من ربه كلمات ، لأن المتلقي حقيقة هو آدم، كما قرئ بذلك أيضا. أو قلب عطف، نحو: ثم تول عنهم فانظر ، أي فانظر ثم تول. ثم دنا فتدلى .، أي تدلى فدنا، لأنه بالتدلي مال إلى الدنو. أو قلب تشبيه، وسيأتي في نوعه. التاسع عشر: إقامة صيغة مقام أخرى، وتحته أنواع كثيرة: منها: إطلاق المصدر على الفاعل، نحو: فإنهم عدو لي ، ولهذا أفرده. وعلى المفعول، نحو: ولا يحيطون بشيء من علمه ، أي من معلومه. صنع الله ، أي مصنوعه. وجاءوا على قميصه بدم كذب ، أي مكذوب فيه، لأن الكذب من صفات الأقوال لا الأجسام. ومنه إطلاق البشرى على المبشر به، والهوى على المهوي، والقول على القول. ومنها إطلاق الفاعل على المصدر، نحو: ليس لوقعتها كاذبة ، أي تكذيب. وإقامة المفعول مقام المصدر، نحو: بأييكم المفتون ، أي الفتنة، على أن الباء غير زائدة. ومنها: إطلاق فاعل على مفعول، نحو: ماء دافق ، أي مدفوق. [ ص: 193 ] لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ، أي لا معصوم. جعلنا حرما آمنا ، أي مأمونا فيه. وعكسه، نحو: إنه كان وعده مأتيا ، أي آتيا. حجابا مستورا ، أي ساترا. وقيل: هو علي بابه، أي مستورا عن العيون لا يحس به أحد. ومنها: إطلاق فعيل بمعنى مفعول، نحو: وكان الكافر على ربه ظهيرا . ومنها: إطلاق واحد من المثنى والمفرد والجمع على آخر منها. مثال إطلاق المفرد على المثنى، نحو: والله ورسوله أحق أن يرضوه . أي يرضوهما، فأفرد لتلازم الرضاءين. وعلى الجمع إن الإنسان لفي خسر ، أي الأناس، بدليل الاستثناء منه. إن الإنسان خلق هلوعا ، بدليل: إلا المصلين . ومثال إطلاق المثنى على المفرد: ألقيا في جهنم ، أي ألق. ومنه كل فعل نسب إلى شيئين، وهو لأحدهما فقط، نحو: يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ، وإنما يخرج من أحدهما وهو الملح دون العذب. ونظيره: ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها ، وإنما تخرج الحلية من الملح. وجعل القمر فيهن نورا .، أي في إحداهن. نسيا حوتهما ، والناسي يوشع. بدليل قوله لموسى: فإني نسيت الحوت ، وإنما أضيف النسيان إليهما معا. لسكوت موسى عنه. فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه . والتعجيل في اليوم الثاني. على رجل من القريتين عظيم . قال الفارسي: أي من إحدى القريتين. وليس منه: ولمن خاف مقام ربه جنتان . وإن المعنى جنة واحدة، خلافا وفي كتاب " ذا القد " للفراء. أن منه: لابن جني: أأنت [ ص: 194 ] قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله . وإنما المتخذ إلها عيسى دون مريم. ومثال إطلاقه على الجمع: ثم ارجع البصر كرتين ، أي كرات، لأن البصر لا يحسر إلا بها. وجعل منه بعضهم: الطلاق مرتان . ومثال إطلاق الجمع على المفرد: قال رب ارجعون ، أي ارجعني. وجعل منه ابن فارس: فناظرة بم يرجع المرسلون . والرسول واحد، بدليل: ارجع إليهم. وفيه نظر، لأنه يحتمل أنه خاطب رئيسهم، لا سيما وعادة الملوك جارية ألا يرسلوا واحدا. وجعل منه: فنادته الملائكة . ينزل الملائكة بالروح ، أي جبريل. وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها . والقاتل واحد. ومثال إطلاقه على المثنى: قالتا أتينا طائعين ف. قالوا لا تخف خصمان . فإن كان له إخوة فلأمه السدس ، أي أخوان. فقد صغت قلوبكما ، أي قلباكما. وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث ... إلى قوله: وكنا لحكمهم شاهدين . ومنها إطلاق الماضي على المستقبل لتحقق وقوعه، لمحو: أتى أمر الله ، أي الساعة، بدليل: فلا تستعجلوه . ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض . وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس . وبرزوا لله جميعا . ونادى أصحاب الأعراف . وعكسه لإفادة الدوام والاستمرار، فكأنه وقع واستمر، نحو: أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم . واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان أي قلت. [ ص: 195 ] ولقد نعلم ، أي علمنا. قد يعلم ما أنتم عليه ، أي علم. فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ، أي قتلتم. وكذا: ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون . ويقول الذين كفروا لست مرسلا ، أي قالوا. ومن لواحق ذلك التعبير عن المستقبل باسم الفاعل أو المفعول، لأنه حقيقة في الحال لا في الاستقبال، نحو: وإن الدين لواقع . ذلك يوم مجموع له الناس . ومنها إطلاق الخبر على الطلب أمرا أو نهيا أو دعاء، مبالغة في الحث عليه. حتى كأنه وقع وأخبر عنه. قال ورود الخبر، والمراد به الأمر أو النهي أبلغ من صريح الأمر أو النهي كأنه سورع فيه إلى الامتثال، وأخبر عنه، نحو: الزمخشري: والوالدات يرضعن أولادهن . والمطلقات يتربصن . فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج - على قراءة الرفع. وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله ، أي لا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله. لا يمسه إلا المطهرون . وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ، أي لا تعبدوا، بدليل قوله: وقولوا للناس حسنا . لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم ، أي اللهم اغفر لهم. وعكسه، نحو: فليمدد له الرحمن مدا ، أي يمد. اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم ، أي ونحن حاملون، بدليل: " وإنهم لكاذبون " . والكذب إنما يرد على الخبر. فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا . وقال الكواشي في الآية الأولى: الأمر بمعنى الخبر أبلغ من الخبر، لتضمنه اللزوم، نحو: إن زرتنا فلنكرمك، يريدون تأكيد إيجاب الإكرام عليهم. وقال ابن عبد السلام: لأن الأمر للإيجاب فأشبه الخبرية لإيجابه . [ ص: 196 ] ومنها: وضع النداء موضع التعجب، نحو: يا حسرة على العباد . قال معناه يا لها من حسرة. وقال الفراء: ابن خالويه: هذه من أصعب مسألة في القرآن، لأن الحسرة لا تنادى، وإنما ينادى الأشخاص، لأن فائدته التنبيه، ولكن المعنى على التعجب. ومنها: وضع مجموع القلة موضع الكثرة، نحو: وهم في الغرفات آمنون . وغرف الجنة لا تحصى. هم درجات عند الله . ورتب الناس في علم الله أكثر من العشرة لا محالة. يتوفى الأنفس ، أياما معدودات . ونكتة التقليل في هذه الآية التسهيل على المكلفين. وعكسه، نحو: يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء . ومنها: تذكير المؤنث على تأويله بمذكر، نحو: فمن جاءه موعظة من ربه ، أي وعظ. وأحيينا به بلدة ميتا ، على تأويل البلدة بالمكان. فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي ، أي الشمس أو الطالع. إن رحمت الله قريب من المحسنين . قال الجوهري: ذكرت على معنى الاستحسان. وقال الشريف المرتضى قوله: ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم : إن الإشارة للرحمة، وإنما لم يقل " ولتلك " لأن تأنيثها غير حقيقي، ولأنه يجوز أن يكون في تأويل أن يرحم. ومنها: تأنيث المذكر، نحو: الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون . أنث الفردوس - وهو مذكر - حملا على معنى الجنة. من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، أنث عشرا حيث حذف الهاء مع إضافتها إلى الأمثال وواحدها مذكر، فقيل لإضافة الأمثال إلى مؤنث، وهو ضمير الحسنات، فاكتسب منها التأنيث. وقيل: هو من باب مراعاة المعنى، لأن الأمثال في المعنى مؤنثة، لأن مثل الحسنة حسنة، والتقدير: فله عشر حسنات أمثالها. وسيأتي في آخر الكتاب في القواعد المهمة قاعدة في التذكير والتأنيث. [ ص: 197 ] ومنها: التغليب، وهو إعطاء شيء حكم غيره. وقيل ترجيح أحد المغلوبين على الآخر، وإطلاق لفظه عليهما، إجراء للمختلفين مجرى المتفقين، نحو: وكانت من القانتين . إلا امرأته كانت من الغابرين . والأصل من القانتات والغابرات، فعدت الأنثى من الذكر بحكم التغليب. بل أنتم قوم تجهلون ، أتى بتاء الخطاب تغليبا لجانب أنتم على جانب قوم. والقياس أن يؤتى بياء الغيبة، لأنه صفة لقوم، وحسن العدول عنه وقوع الموصوف خبرا عن ضمير المخاطبين. اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم ، غلب في الضمير المخاطبين وإن كان " من تبعك " يقتضي الغيبة، وحسنه لأنه لما كان الغائب تبعا للمخاطب في المعصية والعقوبة جعل تبعا له في اللفظ أيضا. وهو من محاسن ارتباط اللفظ بالمعنى. ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض ، غلب غير العاقل حيث أتى "بما" لكثرته. وفي آية أخرى عبر بمن، فغلب العاقل لشرفه. لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا . أدخل شعيب في "لتعودن" بحكم التغليب، إذ لم يكن في ملتهم أصلا حتى يعود فيها. وكذا قوله: إن عدنا في ملتكم . فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس . عد منهم بالاستثناء تغليبا لكونه كان بينهم. يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين ، أي الشرق والمغرب. قال وغلب المشرق لأنه أشهر الجهتين. ابن الشجري: مرج البحرين ، أي الملح والعذب، والبحر خاص بالملح، فغلب لكونه أعظم. ولكل درجات ، أي من المؤمنين والكفار، والدرجات للعلو والدركات للسفل، فاستعمل الدرجات في القسمين تغليبا للأشرف. قال في البرهان: وإنما كان التغليب من باب المجاز، لأن اللفظ لم يستعمل فيما وضع له، ألا ترى أن القانتين موضوع للذكور الموصوفين بهذا الوصف، فإطلاقه على الذكور والإناث إطلاق على غير ما وضع له، وكذا باقي الأمثلة. [ ص: 198 ] ومنها: استعمال حروف الجر في غير معانيها الحقيقية كما تقدم. ومنها: استعمال صيغة أفعل لغير الوجوب وصيغة " لا تفعل" لغير التحريم. وأدوات الاستفهام لغير طلب التصور أو التصديق، وأدوات التمني والترجي والنداء لغيرها، كما سيأتي. ومنها: التضمين، وهو إعطاء الشيء معنى الشيء، ويكون في الحروف والأفعال والأسماء، وسيأتي في حروف الجر. وأما الأفعال فإنه تضمين فعل معنى فعل آخر، ويكون فيه معنى الفعلين معا، وذلك بأن يأتي الفعل متعديا بحرف ليس من عادته التعدي به، فيحتاج إلى تأويله أو تأويل الحرف ليصح التعدي به، الأول تضمين الفعل، والثاني تضمين الحرف. واختلفوا أيهما أولى، فقال أهل اللغة وقوم من النحاة: التوسع في الحرف. وقال المحققون: التوسع في الفعل، لأنه في الأفعال أكثر، مثاله: عينا يشرب بها عباد الله . فيشرب إنما يتعدى بمن، فتعديته بالباء إما على تضمينه معنى يروى ويلتذ، أو بتضمين الباء معنى من. أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم . فالرفث لا يتعدى بإلى إلا على تضمين معنى الإفضاء. هل لك إلى أن تزكى . والأصل في أو تضمين معنى أدعوك. يقبل التوبة عن عباده . عديت بعن لتضمينها معنى العفو والصفح. وأما في الأسماء فإنه تضمين اسم معنى اسم لإفادة معنى الاسمين معا، نحو حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق ، ضمن حقيق معنى حريص، ليفيد أنه محقوق يقول الحق وحريص عليه، وإنما كان التضمين مجازا، لأن اللفظ لم يوضع للحقيقة والمجاز معا، فالجمع بينهما مجاز.