أحدهما: المماثلة، ودل على نفيها قوله تعالى: ولم يكن له كفوا أحد [ ص: 671 ] مع دلالة قوله: قل هو الله أحد على ذلك، لأن أحديته تقتضي أنه متفرد بذاته، وصفاته، فلا يشاركه في ذلك أحد .
والثاني: نفي النقائص والعيوب، وقد نفى منها التولد من الطرفين .
وتضمنت إثبات جميع صفات الكمال بإثبات الأحدية، فالصمدية تثبت الكمال المنافي للنقائص، والأحدية تثبت الانفراد بذلك . فإن الأحدية تقتضي انفراده بصفاته وامتيازه عن خلقه بذاته وصفاته، والصمدية إثبات جميع صفات الكمال ودوامها وقدمها، فإن السيد الذي يصمد إليه لا يكون إلا متصفا بجميع صفات الكمال التي استحق لأجلها أن يكون صمدا، وأنه لم يزل كذلك ولا يزال، فإن صمديته من لوازم ذاته لا تنفك عنه بحال . ومن هنا فسر الصمد بالسيد الذي قد انتهى سؤدده، وفسره : بالذي ليس فوقه أحد . عكرمة
وروي عن وعن علي أنه: الذي لا يكافئه أحد في خلقه . كعب
وعن قال: هو المستغني عن كل أحد، المحتاج إليه كل أحد . أبي هريرة
وعن قال: هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله . سعيد بن جبير
وعن الربيع قال: هو الذي لا تعتريه الآفات .
وعن قال: هو الذي لا عيب فيه . مقاتل بن حيان
وعن ابن كيسان : هو الذي لا يوصف بصفته أحد .
وعن : الصمد: الباقي بعد خلقه، قتادة
وعن مجاهد : هو الدائم . ومعمر
وعن هو الذي لا يبلى ولا يفنى . [ ص: 672 ] وعنه أيضا: هو الذي يحكم ما يريد، ويفعل ما يشاء; لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه . فقد تضمنت هذه السورة العظيمة إثبات صفات الكمال، ونفي النقائص والعيوب من خصائص المخلوقين من التولد والمماثلة . وإذا كان منزها عن أن يخرج منه مادة الولد التي هي أشرف المواد فلأن نزه عن خروج مادة غير الولد أولى . مرة الهمداني:
وكذلك تنزيهه نفسه عن أن يولد فلا يكون من مثله تنزيه له عن أن يكون من سائر المواد بطريق الأولى .
فمن أثبت لله ولدا فقد شتمه وقد ثبت في "صحيح " عن البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أبي هريرة "يقول الله - عز وجل - كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد . لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد" .
وفي "صحيح " أيضا عن البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ابن عباس "قال الله عز وجل: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله: لي ولد، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا! .
وقد رد الله على من زعم أنه لا يعيد الخلق، وعلى من زعم أن له ولدا [ ص: 673 ] كما تضمنه هذا الحديث في قوله: ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا إلى قوله: لقد جئتم شيئا إدا
وفي "صحيح " أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: البخاري "لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم " .
فهذه السورة الكريمة تضمنت نفي ما هو من خصائص آلهة المشركين عن رب العالمين; حيث جاء في سبب النزول أنهم سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه من أي شيء هو؟ أمن كذا، أم من كذا؟ أو ممن ورث الدنيا; ولمن يورثها; حيث كانوا قد اعتادوا آلهة يلدون، ويولدون، ويرثون ويورثون، وآلهة من مواد مصنوعة منها، فأنزل الله هذه السورة .
وفي "المسند" من حديث بعد ذكر نزولها: لأنه ليس أحد يولد لا يموت ولا أحد يرث إلا يورث، يقول: كل من عبد من دون الله وقد ولد مثل أبي بن كعب المسيح والعزير وغيرهما من الصالحين، ومثل الفراعنة المدعين الإلهية، فهذا مولود يموت وهو وإن كان قد ورث من غيره ما هو فيه فإذا مات ورثه غيره ، والله سبحانه حي لا يموت ولا يورث سبحانه وتعالى، والله أعلم .
سؤال: نفى سبحانه الولادة قبل نفي التولد، والتولد أسبق وقوعا من الولاد في حق من هو متولد؟
وجوابه: أن الولادة لم يدعها أحد في حقه سبحانه وإنما ادعوا أنه ولد . فلذلك قدم نفيه لأنه المهم المحتاج إلى نفيه . [ ص: 674 ] سؤال آخر: كيف نفى أن يكون مولودا ولم يعتقده أحد؟
جوابه: من وجهين، أحدهما: أنهم سألوا عمن ورث الدنيا ولمن يورثها . وهذا يشعر بأن منهم من اعتقد ذلك .
والثاني: أنه نفى عن نفسه سبحانه خصائص آلهة المشركين فإن منهم من عبد المسيح، ومنهم من عبد العزير وهما مولودان، ومنهم من عبد الملائكة والعجل وهي متولدات، وقد تقدم أن نفي الولادة تدل على نفي المتولد بطريق الأولى .
فائدة: قال : (كفوا) خبر كان، واسمها (أحد) ، والظرف ملغى، ابن عطية وسيبويه يستحسن أن يكون الظرف إذا تقدم خبرا .
ولكن قد يجيء ملغى في أماكن يقتضيها المعنى كهذه الآية، وكقول الشاعر أنشده سيبويه :
ما دام فيهن فصيل حيا
ويحتمل أن يكون: (كفوا) حالا لما قدم من كونه وصفا للنكرة كما قال كثير لعزة:
لمية موحشا طلل
قال سيبويه : وهذا نقل في الكلام وبابه الشعر .
فهذه السورة تتضمن انفراده ووحدانيته، وأنه منقطع النظير، وأنه إنما نزه عن أن يكون من أجناس المخلوقات، لأن أفراد كل جنس من هذه الأجناس متكافئة مماثلة، فالذهب يكافئ الذهب، والإنسان يكافئ الإنسان ويزاوجه . ولهذا قال تعالى: ومن كل شيء خلقنا زوجين فما من مخلوق [ ص: 675 ] إلا وله كفؤ، هو زوجه، ونظيره، وعدله، ومثيله، فلو كان الحق من جنس شيء من هذه الأجناس لكان له كفو وعدل، وقد علم انتفاؤه بالشرع والعقل . فهذه السورة هي نسب الرحمن وصفته، وهي التي أنزلها الله في نفي ما أضاف إليه المبطلون من تمثيل، وتجسيم، وإثبات أصل وفرع، فدخل فيها ما يقوله من يقول من المشركين، والصابئة، وأهل الكتاب، ومن دخل فيهم من منافقي هذه الأمة من تولد الملائكة أو العقول، أو النفوس، أو بعض الأنبياء، أو غير الأنبياء . ودخل فيها ما يقوله من يقول من المشركين وأهل الكتاب من تولده عن غيره كالذين قالوا في المسيح: إنه الله، والذين يقولون في الدجال: إنه الله، والذين يقولون ذلك في علي وغيره .
ودخل ما يقوله من يقول من المشركين وأهل الكتاب من إثبات كفو له في شيء من الأشياء، مثل من يجعل له بتشبيهه، أو بتجسيمه، كفوا له أو يجعل له بعبادة غيره كفؤا، أو يجعل له بإضافة بعض خلقه إلى غيره كفوا فلا كفو له في شيء من صفاته، ولا في ربوبيته ولا في إلاهيته . فتضمنت هذه السورة تنزيهه، وتقديسه، عن الأصول والفروع، والنظراء . والأمثال . وليس في المخلوقات شيء إلا ولا بد أن ينسب إلى بعض هذه الأعيان والمعاني، فالحيوان من الآدمي وغيره لا بد أن يكون له إما والد، وإما مولود، وإما نظير هو كفؤه، وكذلك الجن، والملائكة، كما قال تعالى: ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون
قال بعض السلف: لعلكم تذكرون فتعلمون أن خالق الأزواج واحد . قال تعالى: والشفع والوتر قال : كل شيء خلقه الله فهو شفع قال تعالى: مجاهد ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون الكفر والإيمان، والهدى والضلالة، والشقاوة والسعادة، والليل والنهار . والسماء والأرض، والبر والبحر، والشمس والقمر، والجن والإنس، والوتر الله تبارك وتعالى .
وهو الذي ذكره في "صحيحه " فإنه يعتمد قول البخاري لأنه أصح التفسير، قال مجاهد : إذا جاءك التفسير عن الثوري فحسبك به، واختاره الشيخ مجاهد مجد الدين ابن تيمية .
وحقيقة الكفؤ: هو المساوي والمقاوم، فلا كفو له تعالى في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أسمائه، ولا في أفعاله، ولا في ربوبيته، ولا في إلاهيته . ولهذا كان الإيمان بالقدر نظام التوحيد، كما قال ، لأن القدرية جعلوا له كفوا في الخلق . وأما توحيد الإلهية فالشرك فيه تارة يوجب الكفر والخروج من الملة . والخلود في النار، ومنه ما هو أصغر كالحلف بغير الله والنذر له، وخشية غير الله ورجائه والتوكل عليه والذل له وقول القائل: ما شاء الله وشئت . ومنه ابتغاء الرزق من عند غير الله، وحمد غيره على ما أعطى، والغنية بذلك عن حمده، ومنه العمل لغير الله وهو الرياء، وهو أقسام . ولهذا حرم التشبه بأفعاله بالتصوير، وحرم التسمي بأسمائه المختصة به [ ص: 677 ] كالله والرحمن والرب . ابن عباس
وإنما يجوز التسمية به مضافا إلى غير من يعقل، وكذلك الجبار والمتكبر والقهار ونحو ذلك كالخلاق والرزاق والدائم، ومنه ملك الملوك،
وقد جعل ابن عقيل التسمية بهذا مكروهة . قال ابن عقيل : كل ما انفرد به الله - عز وجل -: كــ "الله " و"رحمن " و"خالق " لا يجوز التسمي به، وكلما وجد معناه في الآدمي فإن كان يوجد تكبرا، كالملك العظيم والأعظم، وملك الملوك والجبار فمكروه، والصواب الجزم بتحريمه . فأما ما يتسمى به المخلوقون من أسمائه كالسميع والبصير والقدير والعليم والرحيم، فإن الإضافة قاطعة الشركة، وكذلك الوصفية، فقولنا: زيد سميع بصير لا يفيد إلا صفة المخلوق وقولنا: الله سميع بصير يفيد صفته اللائقة به، فانقطعت المشابهة بوجه من الوجوه، ولهذا قال تعالى: هل تعلم له سميا
وفيه قولان: أحدهما: نفي التسمية .
والثاني: نفى المساواة وقد نفى سبحانه عن نفسه المثلية بقوله: ليس كمثله شيء ونفى عنه العدل والتسوية بقوله: ثم الذين كفروا بربهم يعدلون وقوله: قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين ونفى عنه الند بقوله: فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون وقوله: أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا [ ص: 678 ] وفي الحديث: وقال للذي قال له: أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندا وهو خلقك " . ما شاء الله وشئت: "أجعلتني لله ندا؟ " . وفي رواية: "أجعلتني لله عدلا" .
وقال : السماوات السبع، والأرضون السبع، أسست على هذه السورة كعب قل هو الله أحد
ومعنى هذا - والله أعلم - أن السماوات، والأرض، إنما خلقت بالحق . والعدل، والتوحيد; كما قال: وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق
ومن شعر أمية بن أبي الصلت :
وسبحان ربي خالق النور لم يلد . ولم يك مولودا بذلك أشهد وسبحانه من كل إفك وباطل .
وكيف يلد ذو العرش أم كيف يولد هو الله بارئ الخلق والخلق كلهم .
إماء له طوعا جميعا وأعبد هو الصمد الله الذي لم يكن له .
من الخلق كفو قد يضاهيه مخلد وأنى يكون الخلق كالخالق الذي .
يدوم ويبقى والخليقة تنفد وليس بمخلوق على الدهر جده .
ومن ذا على مر الحوادث يخلد وتفنى ولا يبقى سوى القاهر الذي .
يميت ويحيي دائبا ليس يمهد .
* * *
آخره والحمد لله رب