وقد فسر الغيب في هذه الآيات بالدنيا لأن أهلها في غيب عما وعدوا به في الآخرة، وأما في هذا الحديث فلا يتأتى ذلك، كما ترى لمقابلته بالشهادة، كان بعض السلف يقول لإخوانه: زهدنا الله وإياكم في الحرام زهادة من قدر عليه في الخلوة فعلم أن الله يراه فتركه .
ومن هذا قول بعضهم: ليس الخائف من بكى وعصر عينيه، إنما الخائف من ترك ما اشتهى من الحرام إذا قدر عليه، ومن هنا عظم ثواب من أطاع الله، سرا بينه وبينه، ومن ترك المحرمات التي يقدر عليها سرا .
فأما الأول فمثل قوله تعالى: تتجافى جنوبهم عن المضاجع إلى قوله: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين قال بعض السلف: أخفوا لله العمل فأخفى لهم الأجر .
وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، "رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجل تصدق بصدقة، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " .
وفي الحديث: "إذا صلى العبد في العلانية فأحسن وصلى في السر فأحسن، قال [ ص: 703 ] الله: هذا عبدي حقا" .
وفي حديث آخر: "من أحسن صلاته حيث يراه الناس وأساءها حيث لا يراه أحد فتلك استهانة يستهين العبد بها ربه " .
وأما الثاني: فمثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ومثل الحديث الذي جاء فيمن أدى دينا خفيا أنه يخير في أي الحور العين شاء، والموجب لخشية الله في السر والعلانية أمور . "ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين " .
منها: قوة الإيمان بوعده ووعيده على المعاصي .
ومنها: النظر في شدة بطشه وانتقامه وقوته وقهره، وذلك يوجب للعبد ترك التعرض لمخالفته، كما قال ابن الحسن: آدم، هل لك طاقة بمحاربة الله، فإن من عصاه فقد حاربه .
وقال بعضهم: عجبت من ضعيف يعصي قويا .
ومنها: قوة وأنه مع عباده حيث كانوا، كما دل القرآن على ذلك في مواضع كقوله تعالى: المراقبة له، والعلم بأنه شاهد ورقيب على قلوب عباده وأعمالهم إلا هو معهم أين ما كانوا وقوله تعالى: وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن الآية . وقوله: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم وقوله تعالى: يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم الآية . وكما في الحديث الذي خرجه [ ص: 704 ] الطبراني " :"أفضل الإيمان: أن يعلم العبد أن الله معه حيث كان فيوجب ذلك الحياء منه في السر والعلانية . قال بعضهم: خف الله على قدر قدرته عليك . واستح منه على قدر قربه منك .
وقال بعضهم لمن استوصاه: اتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك . وفي هذا المعنى يقول بعضهم:
يا مدمن الذنب أما تستحي . والله في الخلوة ثانيكا غرك من ربك إمهاله .
وستره طول مساويكا
وفي حديث - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أبي ذر "ثلاثة يحبهم الله: رجل أتى قوما فسألهم بالله ولم يسألهم لقرابة كانت بينه وبينهم، فتخلف رجل فأعطاه سرا، لا يعلم بعطيته إلا الله والذي أعطاه، وقوم ساروا ليلهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به، فوضعوا رءوسهم فقام رجل يتملقني ويتلو كتابي، ورجل كان في سرية فخلفوا العدو، فهزموا، فأقبل بصدره حتى يقتل أو يفتح له " .
فهؤلاء الثلاثة قد اجتمع لهم معاملة الله سرا بينهم وبينه، حيث غفل الناس عنهم، فهو تعالى يحب من يعامله سرا بينه وبينه، حيث لا يعامله حينئذ أحد، ولهذا فضل قيام وسط الليل على ما سواه من أوقات الليل . والمحبون يحبون ذلك أيضا علما منهم باطلاعه عليهم ومشاهدته لهم، فهم يكتفون بذلك لأنهم عرفوه فاكتفوا به من بين خلقه، وعاملوه فيما بينه وبينهم [ ص: 705 ] معاملة الشاهد غير الغائب، وهذا مقام الإحسان . قال بعض العارفين: من عرف الله اكتفى به من خلقه .
وكان بعض المخلصين يقول: لا أعتد بما ظهر من عملي .
اطلع على بعض أحوال بعضهم، فدعى لنفسه بالموت وقال: إنما كانت تطيب الحياة إذا كانت المعاملة بيني وبين الله سرا . وقيل لبعضهم: ألا تستوحش وحدك؟ قال: وكيف أستوحش وهو يقول: أنا جليس من ذكرني .
آنستني خلواتي بك عن كل أنيسي . وتفردت فعاينتك في الغيب جليسي