فصل وقد تنازع الناس في ؟ . الترك : هل هو أمر وجودي أو عدمي
والأكثرون على أنه وجودي . وقالت طائفة - كأبي هاشم بن الجبائي - إنه عدمي وأن المأمور يعاقب على مجرد عدم الفعل ، لا على ترك يقوم بنفسه . ويسمون " المذمية " لأنهم رتبوا الذم على العدم المحض . والأكثرون يقولون : الترك أمر وجودي . فلا يثاب من ترك المحظور إلا على ترك يقوم بنفسه . وتارك المأمور : إنما يعاقب على [ ص: 282 ] ترك يقوم بنفسه .
وهو أن يأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بالفعل فيمتنع . فهذا الامتناع أمر وجودي . ولذلك فهو يشتغل عما أمر به بفعل ضده ، كما يشتغل عن عبادة الله وحده بعبادة غيره . فيعاقب على ذلك . ولهذا كان كل، فلا بد أن يكون عابدا لغيره . يعبد غيره فيكون مشركا . وليس في بني آدم قسم ثالث . بل إما موحد ، أو مشرك ، أو من خلط هذا بهذا كالمبدلين من أهل الملل : من لم يعبد الله وحده النصارى ومن أشبههم من الضلال ، المنتسبين إلى الإسلام .
قال الله تعالى { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } { إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } { إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون } وقد قال تعالى { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } لما قال إبليس { لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين } { إلا عبادك منهم المخلصين } قال تعالى { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين }
. فإبليس لا يغوي المخلصين . ولا سلطان له عليهم . إنما سلطانه على الغاوين . وهم الذين يتولونه ، وهم الذين به مشركون . [ ص: 283 ] وقوله { الذين يتولونه والذين هم به مشركون } صفتان لموصوف واحد . فكل من تولاه فهو به مشرك ، وكل من أشرك به فقد تولاه . قال تعالى { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين } { وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم } . وكل من عبد غير الله فإنما يعبد الشيطان ، وإن كان يظن أنه يعبد الملائكة والأنبياء .
وقال تعالى { ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } { قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون } . ولهذا تتمثل الشياطين لمن يعبد الملائكة والأنبياء والصالحين ويخاطبونهم فيظنون أن الذي خاطبهم ملك أو نبي ، أو ولي ، وإنما هو شيطان ، جعل نفسه ملكا من الملائكة ، كما يصيب عباد الكواكب وأصحاب العزائم والطلسمات . يسمون أسماء ، يقولون : هي أسماء الملائكة مثل منططرون وغيره ، وإنما هي أسماء الجن .
وكذلك الذين يدعون المخلوقين من الأنبياء والأولياء والملائكة قد يتمثل لأحدهم من يخاطبه ، فيظنه النبي ، أو الصالح الذي دعاه . وإنما [ ص: 284 ] هو شيطان تصور في صورته ، أو قال : أنا هو ، لمن لم يعرف صورة ذلك المدعو . وهذا كثير يجري لمن يدعو المخلوقين ، من النصارى ومن المنتسبين إلى الإسلام يدعونهم عند قبورهم ، أو مغيبهم . ويستغيثون بهم . فيأتيهم من يقول : إنه ذلك المستغاث به في صورة آدمي إما راكبا ، وإما غير راكب . فيعتقد المستغيث : أنه ذلك النبي ، أو الصالح ، أو أنه سره ، أو روحانيته ، أو رقيقته أو المعنى تشكل ، أو يقول : إنه ملك جاء على صورته . وإنما هو شيطان يغويه ، لكونه أشرك بالله ودعا غيره : الميت فمن دونه .
فصار للشيطان عليه سلطان بذلك الشرك . فظن أنه يدعو النبي ، أو الصالح ، أو الملك . وأنه هو الذي شفع له ، أو هو الذي أجاب دعوته . وإنما هو الشيطان ، ليزيده غلوا في كفره وضلاله . فكل من لم يعبد الله مخلصا له الدين ، فلا بد أن يكون مشركا عابدا لغير الله . وهو في الحقيقة : عابد للشيطان . فكل واحد من بني آدم إما عابد للرحمن ، وإما عابد للشيطان .
قال تعالى { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين } { وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون } { حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين } { ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون } وقال تعالى { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد } . فبنو آدم منحصرون في الأصناف الستة . وبسط هذا له موضع آخر .