فصل الفرق الخامس : أن . أنعم الله بها عليه ، وحصلت بمشيئة الله ورحمته وحكمته وقدرته وخلقه ، ليس في الحسنات أمر عدمي غير مضاف إلى [ ص: 278 ] الله . بل كلها أمر وجودي . وكل موجود وحادث فالله هو الذي يحدثه . ما يحصل للإنسان من الحسنات التي يعملها كلها أمور وجودية
وذلك : أن الحسنات إما فعل مأمور به ، أو ترك منهي عنه . والترك : أمر وجودي . فترك الإنسان لما نهي عنه ، ومعرفته بأنه ذنب قبيح ، وبأنه سبب للعذاب ، وبغضه وكراهته له ، ومنع نفسه منه إذا هويته ، واشتهته وطلبته . كل هذه أمور وجودية . كما أن معرفته بأن الحسنات - كالعدل والصدق - حسنة ، وفعله لها أمور وجودية . ولهذا إنما يثاب الإنسان على ، ويثاب على فعل الحسنات إذا فعلها محبا لها بنية وقصد فعلها ابتغاء وجه ربه . وطاعة لله ولرسوله . قال تعالى { ترك السيئات إذا تركها بالكراهة لها ، والامتناع منها ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون } وقال تعالى { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى } { فإن الجنة هي المأوى } وقال تعالى { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر }
. وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { } . وفي السنن عن ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما . ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله . ومن كان يكره [ ص: 279 ] أن يرجع في الكفر - بعد إذ أنقذه الله منه - كما يكره أن يلقى في النار البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم { } . وفيها عن أوثق عرى الإيمان : الحب في الله ، والبغض في الله أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم { } . وفي الصحيح عن من أحب لله ، وأبغض لله ، وأعطى لله ، ومنع لله ، فقد استكمل الإيمان أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { } . وفي الصحيح من حديث من رأى منكم منكرا فليغيره بيده . فإن لم يستطع فبلسانه . فإن لم يستطع فبقلبه . وذلك أضعف الإيمان ابن مسعود رضي الله عنه - لما ذكر الخلوف - قال {
ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن . ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن . ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل } وقد قال تعالى { من جاهدهم بيده فهو مؤمن . قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء } . [ ص: 280 ] وقال على لسان الخليل { إنني براء مما تعبدون } { إلا الذي فطرني فإنه سيهدين } وقال { أفرأيتم ما كنتم تعبدون } { أنتم وآباؤكم الأقدمون } { فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } وقال { فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون } { إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين } فهذا : هي أمور موجودة في القلب ، وعلى اللسان والجوارح ، كما أن حب الله وموالاته وموالاة أوليائه : أمور موجودة في القلب ، وعلى اللسان والجوارح . البغض والعداوة والبراءة مما يعبد من دون الله ومن عابديه
وهي تحقيق قول " لا إله إلا الله " وهو إثبات تأليه القلب لله حبا خالصا وذلا صادقا . ومنع تأليهه لغير الله ، وبغض ذلك وكراهته . فلا يعبد إلا الله . ويحب أن يعبده ، ويبغض عبادة غيره ويحب التوكل عليه وخشيته ودعاءه ويبغض التوكل على غيره وخشيته ودعاءه . فهذه كلها أمور موجودة في القلب . وهي الحسنات التي يثيب الله عليها . وأما مجرد عدم السيئات ، من غير أن يعرف أنها سيئة ، ولا يكرهها ، بل لا يفعلها لكونها لم تخطر بباله ، أو تخطر كما تخطر [ ص: 281 ] الجمادات التي لا يحبها ولا يبغضها - فهذا لا يثاب على عدم ما يفعله من السيئات . ولكن لا يعاقب أيضا على فعلها . فكأنه لم يفعلها . فهذا تكون السيئات في حقه بمنزلتها في حق الطفل والمجنون والبهيمة . لا ثواب ولا عقاب . ولكن إذا قامت عليه الحجة بعلمه تحريمها . فإن لم يعتقد تحريمها ويكرها وإلا عوقب على ترك الإيمان بتحريمها .