[ ص: 272 ] فصل والمقصود هنا : الكلام على قوله { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } وأن هذا يقتضي ، أن . العبد لا يزال شاكرا مستغفرا
وقد ذكر : أن ، إلا على أحد الوجوه الثلاثة . وقد تضمنت الفاتحة للأقسام الثلاثة هو سبحانه الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم { الشر لا يضاف إلى الله } وقد سبقت وغلبت رحمته غضبه ، وهو الغفور الودود ، الحليم الرحيم . فإرادته : أصل كل خير ونعمة ، وكل خير ونعمة فمنه { أنه أرحم بعباده من الوالدة بولدها وما بكم من نعمة فمن الله }
. وقد قال سبحانه { نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم } ثم قال { وأن عذابي هو العذاب الأليم } وقال تعالى { اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم } فالمغفرة والرحمة من صفاته المذكورة [ ص: 273 ] بأسمائه . فهي من موجب نفسه المقدسة ، ومقتضاها ولوازمها . وأما العذاب : فمن مخلوقاته ، الذي خلقه بحكمة ، هو باعتبارها حكمة ورحمة .
. فما أصابه من حسنة : فمن الله . وما أصابه من سيئة : فمن نفسه . وقوله { فالإنسان لا يأتيه الخير إلا من ربه وإحسانه وجوده . ولا يأتيه الشر إلا من نفسه وما أصابك } إما أن تكون كاف الخطاب له صلى الله عليه وسلم - كما قال ابن عباس وغيره - وهو الأظهر . لقوله بعد ذلك { وأرسلناك للناس رسولا }
. وإما أن تكون لكل واحد من الآدميين ، كقوله { يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم } . لكن هذا ضعيف . فإنه لم يتقدم هنا ذكر الإنسان ولا مكانه . وإنما تقدم ذكر طائفة قالوا ما قالوه . فلو أريد ذكرهم : لقيل ما أصابهم من حسنة فمن الله وما أصابهم من سيئة . لكن خوطب الرسول بهذا ، لأنه سيد ولد آدم .
وإذا كان هذا حكمه : كان هذا حكم غيره بطريق الأولى والأحرى . كما في مثل قوله { اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين } رحمهم الله { لئن أشركت ليحبطن عملك } وقوله { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك } . ثم هذا : نوع يختص لفظه به لكن يتناول غيره بطريق الأولى ، كقوله { الخطاب نوعان يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك } ثم قال { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم }
. ونوع : قد يكون خطابه خطابا به لجميع الناس ، كما يقول كثير من المفسرين : الخطاب له والمراد غيره . وليس المعنى : أنه لم يخاطب بذلك . بل هو المقدم . فالخطاب له خطاب لجميع الجنس البشري . وإن كان هو لا يقع منه ما نهي عنه . ولا يترك ما أمر به . بل هذا يقع من غيره . كما يقول ولي الأمر للأمير : سافر غدا إلى المكان الفلاني . أي أنت ومن معك من العسكر . وكما ينهى أعز من عنده عن شيء . فيكون نهيا لمن دونه . وهذا معروف من الخطاب . فقوله { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } الخطاب له صلى الله عليه وسلم
. وجميع الخلق داخلون في [ ص: 275 ] هذا الخطاب بالعموم ، وبطريق الأولى . بخلاف قوله { وأرسلناك للناس رسولا } فإن هذا له خاصة . ولكن من يبلغ عنه يدخل في معنى الخطاب . كما قال صلى الله عليه وسلم { } وقال { بلغوا عني ولو آية } وقال { نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه } وقال { ليبلغ الشاهد الغائب } وقد قال تعالى في القرآن { إن العلماء ورثة الأنبياء وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ } . والمقصود هنا : أن " الحسنة " مضافة إليه سبحانه من كل وجه . و " السيئة " مضافة إليه لأنه خلقها . كما خلق " الحسنة " فلهذا قال { كل من عند الله } . ثم إنه إنما خلقها لحكمة . ولا تضاف إليه من جهة أنها سيئة ، بل تضاف إلى النفس التي تفعل الشر بها لا لحكمة . فتستحق أن يضاف الشر والسيئة إليها . فإنها لا تقصد بما تفعله من الذنوب خيرا يكون فعله لأجله أرجح . بل ما كان هكذا فهو من باب الحسنات . ولهذا كان فعل الله حسنا . لا يفعل قبيحا ولا سيئا قط . وقد دخل في هذا سيئات الجزاء والعمل . لأن المراد بقوله { ما أصابك من حسنة } و { من سيئة } النعم والمصائب ، كما تقدم . لكن إذا كانت المصيبة من نفسه - لأنه أذنب - فالذنب من نفسه بطريق الأولى .
فالسيئات من نفسه بلا ريب . وإنما جعلها منه مع الحسنة بقوله [ ص: 276 ] { كل من عند الله } كما تقدم . لأنها لا تضاف إلى الله مفردة . بل في العموم ، كقوله { كل من عند الله } . وكذلك الأسماء التي فيها ذكر الشر ، لا تذكر إلا مقرونة ، كقولنا " الضار النافع ، المعطي المانع ، المعز المذل " أو مقيدة ، كقوله { إنا من المجرمين منتقمون } . وكل ما خلقه - مما فيه شر جزئي إضافي - ففيه من الخير العام والحكمة والرحمة أضعاف ذلك . مثل إرسال موسى إلى فرعون . فإنه حصل به التكذيب والهلاك لفرعون وقومه .
وذلك شر بالإضافة إليهم . لكن حصل به - من النفع العام للخلق إلى يوم القيامة ، والاعتبار بقصة فرعون - ما هو خير عام . فانتفع بذلك أضعاف أضعاف من استضر به .
كما قال تعالى { فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين } { فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين } وقال تعالى بعد ذكر قصته { إن في ذلك لعبرة لمن يخشى } . وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم شقي برسالته طائفة من مشركي العرب وكفار أهل الكتاب . وهم الذين كذبوه ، وأهلكهم الله تعالى بسببه . ولكن سعد بها أضعاف أضعاف هؤلاء . ولذلك من شقي به من أهل الكتاب كانوا مبدلين محرفين قبل أن [ ص: 277 ] يبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم . فأهلك الله بالجهاد طائفة . واهتدى به من أهل الكتاب أضعاف أضعاف أولئك . والذين أذلهم الله من أهل الكتاب بالقهر والصغار ، أو من المشركين الذين أحدث فيهم الصغار ، فهؤلاء كان قهرهم رحمة لهم . لئلا يعظم كفرهم ، ويكثر شرهم . ثم بعدهم حصل من الهدى والرحمة لغيرهم ما لا يحصيهم إلا الله . وهم دائما يهتدي منهم ناس من بعد ناس ببركة ظهور دينه بالحجة واليد .
فالمصلحة بإرساله وإعزازه ، وإظهار دينه ، فيها من الرحمة التي حصلت بذلك ما لا نسبة لها إلى ما حصل بذلك لبعض الناس من شر جزئي إضافي ، لما في ذلك من الخير والحكمة أيضا . إذ ليس فيما خلقه الله سبحانه شر محض أصلا ، بل هو شر بالإضافة .