[ ص: 1593 ] القول في تأويل قوله تعالى:
وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا [128]
وإن امرأة خافت من بعلها أي: زوجها نشوزا أي: تجافيا عنها وترفعا عن صحبتها، بترك مضاجعتها والتقصير في نفقتها أو إعراضا أي: تطليقا، أو أن يقل محادثتها ومجالستها؛ كراهة لها أو لطموح عينه إلى أجمل منها.
فلا جناح أي: لا إثم عليهما حينئذ أن يصلحا بينهما صلحا بحط شيء من المهر أو النفقة، أو هبة شيء من مالها أو قسمها؛ طلبا لبقاء الصحبة إن رضيت بذلك، وإلا فعلى الزوج أن يوفيها حقها أو يفارقها.
قال في "الإكليل": الآية أصل في وغيره، استدل به من أجاز لها بيع ذلك. هبة الزوجة حقها من القسم
والصلح خير أي: من الفرقة والنشوز والإعراض.
قال : بل الطلاق بغيض إليه سبحانه وتعالى، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه ابن كثير أبو داود ، عن وابن ماجه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عبد الله بن عمر . أبغض الحلال إلى الله الطلاق
قال بعض مفسري الزيدية: وفي هذه الآية حث على ؛ لقوله تعالى: الصبر على نفس الصحبة والصلح خير أي: من الفرقة وسوء العشرة، أو خير من الخصومة، أو خير من الخيور، كما أن الخصومة شر من الشرور، وقد كان من كرم [ ص: 1594 ] أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يكرم صواحب بعد موتها، وعنه صلى الله عليه وسلم: خديجة وهذا فيه صبر، وفي الصبر ما لا يحصر من [ ص: 1595 ] المحاسن والفضائل، والصلح فيه من أنواع الترغيب. إنه من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه
روي عنه صلى الله عليه وسلم: من أصلح بين اثنين استوجب ثواب شهيد ، وعن : أنس من أصلح بين اثنين أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة . انتهى.
وفي "الإكليل" قوله تعالى: والصلح خير عام في كل صلح، أصل فيه.
وفي الحديث: واستدل بعموم الآية من أجاز الصلح على الإنكار والمجهول. الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا
وأحضرت الأنفس الشح بيان لما جبل عليه الإنسان، أي: جعلت حاضرة له مطبوعة عليه، لا تنفك عنه أبدا، فلا تكاد المرأة تسمح بالنشوز والإعراض وحقوقها من الرجل، ولا الرجل في إمساكها مع القيام بحقوقها على ما ينبغي، إذا كرهها أو أحب غيرها، والجملة الأولى للترغيب في المصالحة، والثانية لتمهيد العذر في المشاحة، وللحث على الصلح، فإن شح نفس الرجل وعدم ميلها عن حالتها الجبلية بغير استمالة مما يحمل المرأة على بذل بعض حقوقها إليه لاستمالته، وكذا شح نفسها بحقوقها مما يحمل الرجل على أن يقتنع من قبلها بشيء يسير، ولا يكلفها بذل الكثير، فيتحقق بذلك الصلح.
وإن تحسنوا في العشرة وتتقوا النشوز والإعراض ونقص الحق فإن الله كان بما تعملون من تحمل المشاق في ذلك خبيرا فيجازيكم ويثيبكم.
قال أبو السعود : وفي خطاب الأزواج بطريق الالتفات، والتعبير عن رعاية حقوقهن بالإحسان، ولفظ (التقوى) المنبئ عن كون النشوز والإعراض مما يتوقى منه، وترتيب الوعد الكريم عليه - من لطف الاستمالة والترغيب في حسن المعاملة ما لا يخفى.
وما قدمنا في تفسير الآية هو زبدة ما نقل عن السلف، صحابة وتابعين في معناها.
قال : ولا أعلم في ذلك خلافا. ابن كثير
وفي البخاري عن في هذه الآية [ ص: 1596 ] قالت: «الرجل تكون عنده المرأة المسنة ليس بمستكثر منها، يريد أن يفارقها، فتقول: أجعلك من شأني في حل» فنزلت هذه الآية. عائشة
وروى ، عن ابن أبي حاتم خالد بن عرعرة قال: جاء رجل إلى عليه السلام - فسأله عن قول الله عز وجل: علي بن أبي طالب - وإن امرأة الآية، قال يكون الرجل عنده المرأة، فتنبو عينه عنها من دمامتها أو كبرها، أو سوء خلقها، أو قذذها، فتكره فراقه، فإن وضعت له من مهرها شيئا حل له، وإن جعلت له من أيامها فلا حرج. علي:
وكذا رواه أبو داود الطيالسي . وابن جرير
وروى - أيضا - عن ابن جرير - رضي الله عنه - أنه سئل عن هذه الآية فقال: هذه المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سنها، فيتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز. عمر
وروى ، عن سعيد بن منصور قال: أنزل في عروة وأشباهها: سودة وإن امرأة الآية، وذلك أن كانت امرأة قد أسنت، ففرقت أن يفارقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضنت بمكانها منه، وعرفت من حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سودة ومنزلتها منه، فوهبت يومها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عائشة فقبل ذلك رسول الله، صلى الله عليه وسلم. لعائشة
وروى نحوه أبو داود الطيالسي ، عن والترمذي . ابن عباس
وروى ، عن الحاكم ، عروة أنها قالت له: يا ابن أختي! كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا، وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ إلى من هو يومها [ ص: 1597 ] فيبيت عندها، ولقد قالت عائشة - حين أسنت وفرقت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله! يومي هذا سودة بنت زمعة ، فقبل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها، قالت: نقول في ذلك أنزل الله تعالى وفي أشباهها أراه قال: لعائشة وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا الآية. عن
وكذلك رواه ، وفي الصحيحين عن أبو داود قالت: « عائشة وهبت يومها سودة بنت زمعة فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم لها بيوم لعائشة، سودة ». لما كبرت
ولا يخفى أن قبوله - صلى الله عليه وسلم - ذلك من إنما هو لتتأسى به أمته في مشروعية ذلك وجوازه، فهو أفضل في حقه عليه الصلاة والسلام. سودة
وقول بعض المفسرين في هذه القصة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عزم على طلاق - باطل وسوء فهم من القصة، إذ لم يرو عزمه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، لا في الصحاح ولا في السنن ولا في المسانيد، غاية ما روي في السنن أن سودة خشيت الفراق لكبرها وتوهمته، وجلي أن للنساء في باب الغيرة أوهاما منوعة، فتقدمت للنبي - صلى الله عليه وسلم - بقبول ليلتها سودة ، فقبل منها. لعائشة
وما رواه عن بعض المعاجم من كونه - صلى الله عليه وسلم - بعث إليها بطلاقها، ثم ناشدته فراجعها - فهو (زيادة عن إرساله وغرابته كما قاله) فيه نكارة لا تخفى. ابن كثير
لطيفة:
حكى هنا أن الزمخشري عمران بن حطان الخارجي كان من أدم بني آدم، وامرأته من أجملهم، فأجالت في وجهه نظرها يوما، ثم تابعت الحمد لله، فقال: ما لك؟ قالت: حمدت الله على أني وإياك من أهل الجنة، قال: كيف؟ قالت: لأنك رزقت مثلي فشكرت، ورزقت مثلك فصبرت، وقد وعد الله الجنة عباده الشاكرين والصابرين. انتهى.
[ ص: 1598 ] قلت: عمران المذكور ممن خرج له في صحيحه، ولما مات سئلت زوجته عن ترجمته؟ فقالت: أوجز أم أطنب؟ فقيل: أوجزي، فقالت: ما قدمت له طعاما بالنهار، وما مهدت له فراشا بالليل، تعني أنه كان صواما قواما، رحمه الله تعالى. البخاري