مكية كلها بإجماعهم
بسم الله الرحمن الرحيم
والذاريات ذروا . فالحاملات وقرا . فالجاريات يسرا . فالمقسمات أمرا . إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع والسماء ذات الحبك إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك قتل الخراصون الذين هم في غمرة ساهون يسألون أيان يوم الدين يوم هم على النار يفتنون ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون
قوله تعالى: والذاريات ذروا يعني الرياح، يقال: ذرت الريح التراب تذروه ذروا: إذا فرقته . قال يقال: ذرت فهي ذارية، وأذرت فهي مذرية بمعنى واحد . الزجاج:
"والذاريات"، مجرورة على القسم، المعنى: أحلف بالذاريات وهذه الأشياء، والجواب "إنما توعدون لصادق" قال قوم: المعنى: ورب الذاريات، ورب الجاريات .
[ ص: 28 ] قوله تعالى: فالحاملات وقرا يعني السحاب التي تحمل وقرها من الماء .
"فالجاريات يسرا" يعني السفن تجري ميسرة في [الماء] جريا سهلا .
"فالمقسمات أمرا" يعني الملائكة تقسم الأمور على ما أمر الله به . قال والمقسمات أربعة، ابن السائب: جبريل، وهو صاحب الوحي والغلظة، وميكائيل، وهو صاحب الرزق والرحمة، وإسرافيل، وهو صاحب الصور واللوح، وعزرائيل، وهو قابض الأرواح . وإنما أقسم بهذه الأشياء لما فيها من الدلالة على صنعه وقدرته .
ثم ذكر المقسم عليه فقال: "إنما توعدون" أي: من الثواب والعقاب يوم القيامة "لصادق" أي: لحق .
"وإن الدين" فيه قولان .
أحدهما: الحساب . والثاني: الجزاء "لواقع" أي: لكائن .
ثم ذكر قسما آخر فقال: "والسماء ذات الحبك" وقرأ عمر بن الخطاب، وأبو رزين: "الحبك" بكسر الحاء والباء جميعا . وقرأ عثمان بن عفان، والشعبي، وأبو العالية، وأبو حيوة: "الحبك" بكسر الحاء وإسكان الباء . وقرأ ، أبي ابن كعب وابن عباس، ، وأبو رجاء "الحبك" برفع الحاء وإسكان الباء . وقرأ وابن أبي عبلة: ابن مسعود، "الحبك" بفتح الحاء و الباء جميعا . وعكرمة:
[ ص: 29 ] وقرأ أبو الدرداء، وأبو الجوزاء، ، وأبو المتوكل وأبو عمران الجوني، وعاصم الجحدري: [ "الحبك"] بفتح الحاء وكسر الباء .
ثم في معنى "الحبك" أربعة أقوال . أحدها: ذات الخلق الحسن، رواه ابن أبي طلحة عن وبه قال ابن عباس والثاني: البنيان المتقن، قاله قتادة . والثالث: ذات الزينة، قاله مجاهد . وقال سعيد بن جبير . حبكها: نجومها . والرابع: ذات الطرائق، قاله الحسن: واللغويون . وقال الضحاك الحبك: تكسر كل شيء كالرمل إذا مرت به الريح الساكنة، والماء القائم إذا مرت به الريح ، والشعرة الجعدة تكسرها حبك، وواحد الحبك: حباك وحبيكة وقال الفراء: أهل اللغة يقولون: الحبك: الطرائق الحسنة، والمحبوك في اللغة: ما أجيد عمله، وكل ما تراه من الطرائق في الماء وفي الرمل إذا أصابته الريح فهو حبك . وروي عن الزجاج: أنه قال: هذه هي السماء السابعة . عبد الله بن عمرو
ثم ذكر جواب القسم الثاني، قال: "إنكم" يعني أهل مكة لفي قول مختلف في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، بعضكم يقول: شاعر، وبعضكم يقول: مجنون . وفي القرآن [بعضكم] يقول: سحر، وبعضكم يقول: كهانة ورجز، إلى غير ذلك .
يؤفك عنه من أفك أي: يصرف عن الإيمان [به] من صرف [فحرمه] . [والهاء في "عنه" عائدة إلى القرآن . وقيل: يصرف عن هذا [ ص: 30 ] القول، أي: من أجله وسببه عن الإيمان من صرف] . وقرأ "من أفك" بفتح الألف والفاء . وقرأ قتادة: "من أفك" بفتح الألف وكسر الفاء . عمرو بن دينار:
قتل الخراصون قال يعني [لعن] الكذابون الذين قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم ساحر وكذاب وشاعر، خرصوا ما لا علم لهم به . وفي رواية الفراء: عن العوفي أنهم الكهنة . وقال ابن عباس: والقتل إذ أخبر عن الله به فهو بمعنى اللعنة، لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك . ابن الأنباري:
قوله تعالى: الذين هم في غمرة أي: في عمى وجهالة بأمر الآخرة ساهون أي: غافلون . والسهو: الغفلة عن الشيء وذهاب القلب عنه .
يسألون أيان يوم الدين أي: يقولون: يا محمد متى يوم الجزاء؟! تكذيبا منهم واستهزاء .
ثم أخبر عن ذلك اليوم، فقال: يوم هم على النار قال "اليوم" منصوب على معنى: يقع الجزاء يوم هم على النار الزجاج: يفتنون أي: يحرقون ويعذبون، ومن ذلك يقال للحجارة السود التي كأنها قد أحرقت بالنار: الفتين .
قوله تعالى: ذوقوا المعنى: يقال لهم: ذوقوا فتنتكم وفيها قولان .
أحدهما: تكذيبكم، قاله والثاني: حريقكم، قاله ابن عباس . قال مجاهد . ها هنا تم الكلام، ثم ائتنف، فقال: أبو عبيدة: هذا الذي كنتم به تستعجلون قال المفسرون: يعني الذي كنتم تستعجلونه في الدنيا استهزاء . ثم ذكر ما وعد الله لأهل الجنة فقال: إن المتقين في جنات وعيون وقد سبق شرح هذا [البقرة: 25، الحجر 45] .
قوله تعالى آخذين قال هو منصوب على الحال، فالمعنى: [ ص: 31 ] في جنات وعيون في حال أخذ الزجاج: ما آتاهم ربهم قال المفسرون: أي: ما أعطاهم الله من الكرامة إنهم كانوا قبل ذلك محسنين في أعمالهم . وفي الآية وجه آخر: "آخذين ما آتاهم ربهم" أي: عاملين بما أمرهم به من الفرائض "إنهم كانوا قبل" أن تفرض الفرائض عليهم، "محسنين" أي: مطيعين، وهذا معنى قول في رواية ابن عباس مسلم البطين .
ثم ذكر إحسانهم فقال: "كانوا قليلا من الليل ما يهجعون" والهجوع: النوم بالليل دون النهار .
وفي "ما" قولان . أحدهما: النفي . ثم في المعنى قولان . أحدهما: كانوا يسهرون قليلا من الليل . قال أنس بن مالك، هو ما بين المغرب والعشاء . وأبو العالية:
والثاني: كانوا ما ينامون قليلا من الليل . واختار قوم الوقف على قوله: "قليلا" على معنى: كانوا من الناس قليلا، ثم ابتدأ فقال: "من الليل ما يهجعون" على معنى نفي النوم عنهم البتة، وهذا مذهب الضحاك، [ ص: 32 ] والقول الثاني: أن "ما" بمعنى الذي، فالمعنى: كانوا قليلا من الليل الذي يهجعونه، وهذا مذهب ومقاتل . الحسن، والأحنف بن قيس، وعلى هذا يحتمل أن تكون "ما" زائدة . والزهري .
قوله تعالى: وبالأسحار هم يستغفرون وقد شرحناه في [آل عمران: 17] .
قوله تعالى: وفي أموالهم حق أي: نصيب، وفيه قولان .
أحدهما: أنه ما يصلون به رحما، أو يقرون به ضيفا، أو يحملون به كلا، أو يعينون به محروما، وليس بالزكاة، قاله ابن عباس .
والثاني: أنه الزكاة، قاله قتادة، وابن سيرين .
قوله تعالى: للسائل وهو الطالب .
وفي " المحروم " ثمانية أقوال .
أحدها: أنه الذي ليس له سهم في فيء المسلمين، وهو المحارف، قاله وقال ابن عباس . إبراهيم: هو الذي لا سهم له في الغنيمة .
والثاني: أنه الذي لا ينمى له شيء، قاله وكذلك قال مجاهد، هو المحروم في الرزق والتجارة . عطاء:
والثالث: أنه المسلم الفقير، قاله محمد بن علي .
والرابع: أنه المتعفف الذي لا يسأل شيئا، قاله قتادة، والزهري .
والخامس: أنه الذي يجيء بعد الغنيمة، وليس له فيها سهم، قاله الحسن بن محمد بن الحنفية .
[ ص: 33 ] والسادس: أنه المصاب ثمرته وزرعه أو نسل ماشيته، قاله ابن زيد .
والسابع: أنه المملوك، حكاه الماوردي .
والثامن: أنه الكلب، روي عن وكان عمر بن عبد العزيز . يقول: أعياني أن أعلم ما المحروم؟ . وأظهر الأقوال قول الشعبي قتادة لأنه قرنه بالسائل، والمتعفف لا يسأل - ولا يكاد الناس يعطون من لا يسأل - ثم يتحفظ بالتعفف من ظهور أثر الفاقة عليه، فيكون محروما من قبل نفسه حين لم يسأل، ومن قبل الناس حين لا يعطونه، وإنما يفطن له متيقظ . وقد ذكر المفسرون أن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة، ولا يصح . والزهري،
قوله تعالى: وفي الأرض آيات كالجبال والأنهار والأشجار والثمار وغير ذلك للموقنين بالله عز وجل الذين يعرفونه بصنعه .
وفي أنفسكم آيات إذ كنتم نطفا، ثم عظاما، ثم علقا ثم مضغا، إلى غير ذلك من أحوال الاختلاف، ثم اختلاف الصور والألوان والطبائع، وتقويم الأدوات، والسمع والبصر والعقل، وتسهيل سبيل الحدث، إلى غير ذلك من العجائب المودعة في ابن آدم . وتم الكلام عند قوله: "وفي أنفسكم"، ثم قال: أفلا تبصرون قال أفلا تبصرون كيف خلقكم فتعرفوا قدرته على البعث . مقاتل:
قوله تعالى: وفي السماء رزقكم وقرأ ، أبي بن كعب وحميد، [ ص: 34 ] "أرزاقكم" براء ساكنة وبألف بين الزاي والقاف . وقرأ وأبو حصين الأسدي: ابن مسعود، والضحاك، وأبو نهيك: "رازقكم" بفتح الراء وكسر الزاي وبألف بينهما . وعن ابن محيصن كهاتين القراءتين . وفيه قولان .
أحدهما: أنه المطر، رواه عن أبو صالح ابن عباس، وليث عن وهو قول الجمهور . مجاهد،
والثاني: الجنة، رواه عن ابن أبي نجيح مجاهد .
وفي قوله: و ما توعدون قولان .
أحدهما: أنه الخير والشر كلاهما يأتي من السماء، قاله عن أبو صالح ابن عباس، عن وابن أبي نجيح مجاهد .
والثاني: الجنة، رواه عن ليث قال مجاهد . في هذه الآية مضمر مجازه: عند من في السماء رزقكم، وعنده ما توعدون، أبو عبيدة: والعرب تضمر، قال نابغة [ذبيان]:
كأنك من جمال بني أقيش يقعقع خلف رجليه بشن
أراد: كأنك جمل من جمال بني أقيش .
قوله تعالى: إنه لحق قال يعني ما ذكره من أمر الآيات والرزق وما توعدون وأمر النبي صلى الله عليه وسلم . الزجاج: مثل ما أنكم تنطقون قرأ حمزة، والكسائي، عن وأبو بكر "مثل" برفع اللام . وقرأ الباقون بنصب اللام . قال عاصم: فمن رفع "مثل" فهي من صفة الحق، والمعنى: إنه لحق مثل نطقكم; ومن نصب فعلى ضربين . [ ص: 35 ] أحدهما: أن يكون في موضع رفع، إلا أنه لما أضيف إلى "أن" فتح . الزجاج:
والثاني: أن يكون منصوبا على التأكيد، على معنى: إنه لحق حقا مثل نطقكم، وهذا الكلام كما تقول: إنه لحق كما أنك تتكلم .