ولما سلاه بما هو في غاية الكفاية في التسلية ، أخبره بأنه لا حيلة له غير الصبر ، فقال عاطفا على ما تقديره : فتسل واصبر كما صبروا ، وليصغر عندك ما تلاقي منهم في جنب الله : وإن كان كبر أي : عظم جدا عليك إعراضهم أي : عما يأتيهم به من الآيات الذي قدمنا الإخبار عنه بقولنا : وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين وأردت أن تنتقل - في إخبارنا لك بأنه لا ينفعهم الآيات المقترحات - من علم اليقين إلى عين اليقين فإن استطعت أن تبتغي أي : تطلب بجهدك وغاية طاقتك نفقا أي : منفذا في الأرض تنفذ فيه إلى ما عساك تقدر على الانتهاء إليه أو سلما في السماء أي : جهة العلو لترتقي فيه إلى ما تقدر عليه فتأتيهم بآية أي : ما اقترحوا عليك فافعل لتشاهد أنهم لا يزدادون عند إتيانك بها إلا إعراضا كما أخبرناك ، [ ص: 100 ] لأن الله قد شاء ضلال بعضهم ، والمراد بهذا بيان شدة حرصه - صلى الله عليه وسلم - على هدايتهم بأنه لو قدر على أن يتكلف النزول إلى تحت الأرض أو فوق السماء فيأتيهم بما يؤمنون به لفعل .
ولما كان هذا السياق ربما أوهم شيئا في القدرة - نفاه إرشادا إلى تقدير ما قدرته فقال : ولو شاء الله أي : الذي له العظمة الباهرة والقدرة الكاملة القاهرة لجمعهم على الهدى أي : لأن قدرته شاملة ، وإيمانهم في حد ذاته ممكن ، ولكنه قد شاء افتراقهم بإضلال بعضهم; ولما كان - صلى الله عليه وسلم - بعد إعلام الله له بما أعلم من حكمه بأن الآيات لا تنفع من حتم بكفره - حريصا على إجابتهم إلى ما يقترحونه رجاء جمعهم على الهدى لما طبع عليه من مزيد الشفقة على الغريب فضلا عن القريب ، مع ما أوصاه الله به ليلة الإسراء من غير واسطة - كما أفاده - من إدامة الشفقة على عباده والرحمة لهم والإحسان إليهم واللين لهم وإدخال السرور عليهم ، فتظافر على ذلك الطبع والإيصاء حتى كان لا يكف عنه إلا لأمر جازم أو نهي مؤكد صارم - سبب عن ذلك قوله : الحرالي فلا تكونن فأكد الكلام - سبحانه - ليعلم - صلى الله عليه وسلم - أنه قد حتم بافتراقهم ، فيسكن إلى ذلك [ ص: 101 ] ويخالف ما جبل عليه من شدة الشفقة عليهم من الجاهلين أي : إنك أعلم الناس مطلقا ولك الفراسة التامة والبصر النافذ والفكرة الصافية بمن لم تعاشره ، فكيف بمن بلوتهم ناشئا وكهلا ويافعا! فلا تعمل بحجة ما أوصاك الله به من الصبر والصفح ، وجبلك عليه من الأناة والحلم في ابتغاء إيمانهم بخلاف ما يعلم من خسرانهم ، فلا تطمع نفسك فيما لا مطمع فيه ، فإن ما شاءه لا يكون [غيره] ، فهذه الآية وأمثالها - مما في ظاهره غلظة - من الدلالة على عظيم رتبته - صلى الله عليه وسلم - ومن لطيف أمداح القرآن له - كما يبين - إن شاء الله تعالى - في سورة التوبة عند قوله تعالى : عفا الله عنك