[ ص: 403 ] ولما بين سبحانه نعمته عليهم بالإمكان من القرية بالنصر على أهلها والتمتع بمنافعها وختمه بتعذيبهم بما يميت أو يحرق وتبين من ذلك كله أن قلوبهم أشد قسوة من الحجارة كما سيأتي التصريح به من قول الله تعالى في قصة البقرة وأنها لا منفعة فيها أتبعه التذكير بنعمته عليهم في البرية بما يبرد الأكباد ويحيي الأجساد فذكر انفجار الماء من الحجر الذي عمهم نفعه وأنقذهم من الموت نبعه ودلهم على التوحيد والرسالة أصله وفرعه بقدرة الصانع وعلمه جمعا لهم بذلك بين نعمتي الدين والدنيا فقال تعالى وإذ استسقى أي طلب السقيا . قال : والسقيا فعلى صيغة مبالغة فيما يحصل به الري من السقي والسقي إحياء موات [ ص: 404 ] شأنه أن يطلب الإحياء حالا أو مقالا ؛ قال صلى الله عليه وسلم : " الحرالي " انتهى . اللهم اسق عبادك ! ثم قال : وأحي بلدك الميت موسى لقومه أي لما خافوا الموت من العطش فقلنا أي بما لنا من العظمة حين خفيت عنهم اضرب قال : من الضرب وهو وقع الشيء على الشيء بقوة الحرالي بعصاك والعصا كأنها ما يكف به العاصي ، وهو من ذوات الواو ، والواو فيه إشعار بعلو كأنها آلة تعلو من قارف ما تشعر فيه الياء بنزول عمله بالمعصية ، كأن العصو أدب العصي ، يقال عصا يعصو أي ضرب بالعصا اشتقاق ثان ، وعصى يعصي إذا خالف الأمر . انتهى . الحجر أي جنسه فضرب حجرا فانفجرت وما أنسب ذكر الانفجار هنا بعد ختم ما قبل بالفسق لاجتماعهما في الخروج عن محيط ، [ ص: 405 ] هذا خروج يحيي وذاك خروج يميت . قال : الانفجار انبعاث وحي من شيء موعى أو كأنه موعى انشق وانفلق عنه وعاؤه ومنه الفجر وانشقاق الليل عنه . انتهى . ولأن هذا سياق الامتنان عبر بالانفجار الذي يدور معناه على انشقاق فيه سيلان وانبعاث مع انتشار واتساع وكثرة ، ولما لم يكن الحرالي منه أي الحجر الذي ضربه اثنتا عشرة عينا لكل سبط عين ، والعين قال هو باد نام قيم يبدو به غيره ، [ ص: 406 ] فما أجزأ من الماء في ري أو زرع فهو عين ، وما مطر من السماء فأغنى فهو عين ، يقال إن العين مطر أيام لا يقلع وإنما هو مطر يغني وينجع ، وما تبدو به الموزونات عين ، وما تبدو به المرئيات من الشمس عين ، وما تنال به الأعيان من الحواس عين ، والركية وهي بئر السقيا عين ، وهي التي يصحفها بعضهم فيقول : الركبة - بالباء يعني الموحدة - وإنما هي الركية - بالياء المشددة - كذا قال ، وقد ذكر أهل اللغة عين الركبة ؛ وعد في القاموس المعاني التي لهذا اللفظ نحو أربعين ، منها نقرة الركبة [ ص: 407 ] أي بالموحدة ، ومنها مفجر ماء الركية بالتحتانية مشددة . الحرالي
ولما توقع السامع إخبار المتكلم هل كانت الأعين موزعة بينهم معروفة أو ملبسة قال قد علم كل أناس أي منهم . قال : وهو اسم جمع من الأنس بالضم - كالناس اسم جمع من النوس ، قال : فلم يسمهم باسم من أسماء الدين لأن الأسماء تجري على حسب الغالب على المسمين بها من أحوال تدين أو حال طبع أو تطبع الحرالي مشربهم مكتفاهم من الشرب المردد مع الأيام ومع الحاجات في كل وقت بما يفهمه المفعل اسم مصدر ثان مشتق من مطلق الشرب أو اسم محل يلزمه [ ص: 408 ] التكرار عليه والتردد ، فجعل سبحانه سقياهم آية من آياته في عصاه ، كما كانت آيته في عصاه على عدوه الكافر ، فكان فيها نقمة ورحمة ؛ وظهر بذلك كمال تمليكه تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم حين كان ينبع من بين أصابعه الماء غنيا في نبوعه عن آلة ضرب أو حجر ، وتمليك الماء من أعظم التمكين ، لأنه تمكين فيما هو بزر كل شيء ومنه كل حي وفيه كل مجعول ومصور . انتهى . يعني أن هذه الخارقة دون ما نبع للنبي صلى الله عليه وسلم من الماء من بين أصابعه ، ودون ما نبع بوضع أصحابه سهما من سهامه في بئر الحديبية وقد كانت لا ماء فيها ، ونحو ذلك كثير .
ولما كان السياق للامتنان وكان الإيجاد لا تستلزم التحليل للتناول قال زيادة على ما في الأعراف ممتنا عليهم بنعمة الإحلال بعد الإيجاد على تقدير القول لأنه معلوم تقديره كلوا واشربوا من رزق الله [ ص: 409 ] أي الذي رزقكموه من له الكمال كله من غير كد ولا نصب . قال : لما لم يكن في مأكلهم ومشربهم جري لعادة حكمته في الأرض فكان من غيب فأضيف ذكره لاسم الله الذي هو غيب الحرالي ولا [ ص: 410 ] تعثوا من العثو وهو أشد الفساد وكذلك العثي إلا أنه يشعر هذا التقابل بين الواو والياء أن العثو إفساد أهل القوى بالسطوة ، والعثي إفساد أهل المكر بالحيلة . انتهى . في الأرض أي عامة ، لأن من أفسد في شيء منها بالفعل فقد أفسد فيها كلها بالقوة . وإتباع ما معناه الفساد قوله مفسدين دليل على أن المعنى ولا تسرعوا إلى فعل ما يكون فسادا قاصدين به الفساد ، فإن العثي والعيث الإسراع في الفساد ، لكن قد يقصد بصورة الفساد الخير فيكون صلاحا في المعنى ، كما فعل الخضر عليه السلام في السفينة والغلام ، وليس المراد بالإسراع التقييد بل الإشارة إلى أنه لملاءمته للهوى لا يكون إلا كذلك ، سيأتي له في سورة هود عليه السلام إن شاء الله تعالى مزيد بيان . قال : وفيه إشعار [ ص: 411 ] بوقوع ذلك منهم ، لأن في كل نهي إشعارا بمخالفته ، إلا ما شاء الله ، وفي كل أمر إشعارا بموافقته إلا ما شاء الله ، لأن ما جبل عليه المرء لا يؤمر به لاكتفاء إجباره فيه طبعا عن أمره ، وما منع منه لا ينهى عنه لاكتفاء إجباره عن أمره ، وإنما مجرى الأمر والنهي توطئة لإظهار الكيان في التفرقة بين مطيع وعاص ، فكان منهم لذلك من العثي ما أوجب ما أخبر به الحق عنهم من الهوان ، وأشد الإفساد إفساد بنيان الحق الذي خلقه بيده وهي مباني أجساد بني الحرالي آدم فكيف بالمؤمنين منهم [ ص: 412 ] فكيف بالأنبياء منهم . انتهى .