ولما كان العفو عن الظالم الذي لا يرجع عن ظلمه نقصا، لكونه لا حكمة فيه، عبر بالاسم الأعظم في جملة حالية فقال: والله أي والحال أن المتصف بجميع صفات الكمال يقضي بالحق أي الثابت الذي لا يصح أصلا نفيه، فلو قضى فيمن يعلم أنه ليس بأهل للشفاعة فيه بقبول الشفاعة لنفى الحق وأثبت الباطل فخالف ذلك الكمال والذين يدعون أي الظالمون - على قراءة الجماعة، وأيها الظالمون - على قراءة نافع بخلاف عن وابن عامر ابن ذكوان بالخطاب للمواجهة بالإزراء. ولما كانت المراتب دون عظمته سبحانه لا تنحصر ولا يحتوي عليها كلها شيء، أثبت الجار فقال: من دونه أي سواه، ومن المعلوم أنهم خلقه فهم دون رتبته لأنهم في قهره لا يقضون بشيء من الأشياء أصلا، فضلا عن أن يقضوا بما يعارض حكمه، فلا مانع له من القضاء بالحق، فلا مقتضى لقبول الشفاعة فيمن يعلم عراقته في [ ص: 34 ] الظلم أنه لا ينفك عنه.
ولما أخبر أنه لا فعل لشركائهم، وأن الأمر له وحده، علل ذلك بقوله مرهبا من الخيانة وغيرها من الشر، مرغبا في كل خير، مؤكدا لأجل أن أفعالهم تقتضي إنكارا ذلك: إن الله عبر به لأن السياق لتحقير شركائهم وبيان أنها في غاية النقصان هو أي وحده. ولما ذكر ما هو غيب، وصفه بأظهر ظاهر فقال: السميع أي لكل ما يمكن أن يسمع البصير أي بالبصر والعلم لكل ما يمكن أن يبصر ويعلم، فلا إدراك لشركائهم أصلا ولا لشيء غيره بالحقيقة، ومن لا إدراك له ولا قضاء له، فثبت أن الأمر له وحده، فما تنفعهم شفاعة الشافعين ولا تقبل فيهم من أحد شفاعة بعد الشفاعة العامة التي هي خاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم، وهي الذي يغبطه به الأولون والآخرون، فإن كل أحد يحجم عنها حتى يصل الأمر إليه صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها أنا لها، ثم يذهب إلى المكان الذي أذن له فيشفع، فيشفعه الله تعالى فيفصل سبحانه بين الخلائق ليذهب كل أحد إلى داره: جنته أو ناره، روى الشيخان: المقام المحمود البخاري عن ومسلم [ ص: 35 ] رضي الله عنه قال: أبي هريرة
"أنا سيد الناس يوم القيامة، هل تدرون مم ذاك، يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيبصرهم الناظر، ويسمعهم الداعي، وتدنو منهم الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحملون، فيقول الناس: ألا ترون إلى ما أنتم فيه وإلى ما بلغكم؟ ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم، فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم فذكر سؤالهم أكابر الأنبياء، وكل واحد منهم يحيل على الذي بعده إلى أن يقول عيسى عليه السلام: اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم حين يأتونه: أنا لها، فينطلق فيسجد تحت العرش" - وهو مروي عن غير كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوة فرفع إليه الذراع، وكانت تعجبه، فنهش منها نهشة، فقال: عن أبي هريرة وغيره من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولكن لم أر فيه التصريح بالشفاعة العامة بعد رفع رأسه صلى الله عليه وسلم من السجود إلا فيما رواه أنس في الزكاة من صحيحه في باب "من سأل الناس تكثرا" عن البخاري رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ابن عمر بموسى ثم بمحمد فيشفع ليقضي [ ص: 36 ] بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم" ، وكذا فيما رواه "إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم في مسنده فقال: حدثنا أبو يعلى عمرو بن الضحاك بن مخلد ثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد ثنا أبو رافع إسماعيل بن رافع عن محمد بن زياد عن عن رجل من الأنصار عن محمد بن كعب القرظي رضي الله عنه قال: أبي هريرة حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في طائفة من أصحابه فقال: "إن الله تبارك وتعالى لما فرغ من خلق السماوات والأرض خلق الصور فذكر النفخ فيه للموت ثم للبعث ثم ذكر الحشر" - وهو حديث طويل جدا إلى أن قال: "ثم يقفون موقفا واحدا مقدار سبعين عاما لا ينظر إليكم ولا يقضى بينكم، فتبكون حتى تنقطع الدموع، ثم تدمعون دما وتعرقون إلى أن يبلغ ذلك منكم أن يلجمكم أو يبلغ الأذقان، فتضجون وتقولون: من يشفع لنا إلى ربنا يقضي بيننا، فتقولون: من أحق بذلك من أبيكم آدم، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وكلمه قبلا، فتأتون آدم فتطلبون ذلك إليه فيأبى فيقول: ما أنا بصاحب ذلك، ثم يستقربون الأنبياء نبيا نبيا كلما جاؤوا نبيا أبى عليهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حتى تأتوني، فأنطلق حتى آتي الفحص فأخر ساجدا [ ص: 37 ] فقال : يا رسول الله! ما الفحص؟ قال: قدام العرش - حتى يبعث الله إلي ملكا فيأخذ بعضدي فيرفعني فيقول لي: يا أبو هريرة محمد! فأقول: نعم يا رب! فيقول: ما شأنك - وهو أعلم فأقول: يا رب وعدتني فشفعني في خلقك فاقض بينهم، قال: قد شفعتك أنا آتيكم فأقضي بينكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأرجع فأقف مع الناس فبينما نحن وقوف سمعنا حسا من السماء شديدا فنزل أهل السماء الدنيا مثل من في الأرض من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم، وأخذوا مصافهم وقلنا لهم: أفيكم ربنا؟ قالوا: لا، وهو آت ثم ينزل أهل السماء الثانية بمثل من نزل من الملائكة، ومثل الجن والإنس، حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم، وأخذوا مصافهم وقلنا لهم: أفيكم ربنا؟ قالوا: لا، وهو آت، ثم ينزلون على قدر ذلك من التضعيف حتى ينزل الجبار تبارك وتعالى في ظلل من الغمام، والملائكة تحمل عرشه يومئذ ثمانية، وهو اليوم على أربعة - إلى أن قال: فيضع الله كرسيه حيث شاء من أرضه، ثم يهتف بصوته فيقول: يا معشر الجن والإنس! إني قد أنصت لكم من يوم خلقتكم إلى يوم يومكم هذا أسمع قولكم، وأبصر أعمالكم، فأنصتوا لي فإنما هي أعمالكم [ ص: 38 ] وصحفكم تقرأ عليكم، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، ثم يأمر الله جهنم فيخرج منها عنق ساطع مظلم، ثم يقول الله عز وجل ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون هذه جهنم التي كنتم توعدون - أو بها تكذبون - شك أبو عاصم ، وامتازوا اليوم أيها المجرمون فتسمى النار وتجثو الأمم وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها فيقضي بين خلقه"
- فذكره وهو طويل جدا، ثم ذكر الصراط وبعض الشفاعات الخاصة في أهل الجنة، فذكر دخولهم الجنة ثم أنهم يشفعون في بعض أهل النار إلى أن قال: "ثم يأذن الله في الشفاعة، فلا يبقى نبي ولا شهيد إلا شفع"
إلى أن قال: "ثم يقول الله عز وجل: بقيت أنا وأنا أرحم الراحمين. فيدخل الله يده في جهنم فيخرج منها لا يحصيه غيره" وروى في صحيحه - قال ابن حبان المنذري: ولا أعلم في إسناده مطعنا - عن رضي الله عنه حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول إبراهيم عليه السلام يوم القيامة. يا رباه، فيقول الرب جل وعلا: يا لبيكاه، فيقول إبراهيم: يا رب حرقت بني - فيقول الله: أخرجوا من النار من كان في قلبه ذرة أو شعيرة من الإيمان" وروى وقال: صحيح على شرط الحاكم مسلم : وأحمد بن منيع أحد رواة أبو جعفر ابن منيع - "فيأخذ بأنفه فيقول: أبوك هو، فيقول: ما هو بأبي، فيهوي في النار" وهو في "يلقى رجل [ ص: 39 ] أباه يوم القيامة فيقول: يا أبة! أي ابن كنت لك؟ فيقول: خير ابن، فيقول: هل أنت مطيعي اليوم، فيقول: نعم، فيقول خذ بإزرتي، فيأخذ بإزرته، ثم ينطلق حتى يأتي الله وهو يعرض بعض الخلق، فيقول: يا عبدي! ادخل من أي أبواب الجنة شئت، فيقول: أي ربي، وأبي معي فإنك وعدتني أن لن تخزيني، فيعرض عنه ويقضي بين الخلق ويعرضهم ثم ينظر إليه فيقول: يا ابن آدم ادخل من أي أبواب الجنة شئت فيقول: أي ربي وأبي معي فإنك قد وعدتني أن لن تخزيني قال: فيمسخ الله أباه ضبعا أمذر أو أمجر" - شك في أحاديث الأنبياء وتفسير الشعراء بلفظ: البخاري إبراهيم عليه السلام أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم عليه السلام: ألم أقل لك: لا تعصني، فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى عن أبي الأبعد، فيقول الله تعالى: [ ص: 40 ] إني حرمت الجنة على الكافرين، ثم يقال لإبراهيم عليه السلام: انظر ما تحت رجلك فينظر فإذا هو بذيخ - وهو ذكر الضبعان - متلطخ فيؤخذ بقوامه فيلقى في النار" ، وروى "يلقى أبو يعلى الموصلي وقال: صحيح على شرط الشيخين عن والحاكم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أبي سعيد "ليأخذن رجل بيد أبيه يوم القيامة فتقطعه النار يريد أن يدخله الجنة، قال: فينادى أن الجنة لا يدخلها مشرك، ألا إن الله قد حرم الجنة على كل مشرك قال: فيقول: أي رب! أبي، فيحول في صورة قبيحة وريح منتنة فيتركه، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه إبراهيم عليه السلام" ، وروى الشيخان وغيرهما عن رضي الله عنهما قال: ابن عباس
"إنكم ملاقو الله حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين، ألا وإن أول الخلائق يكسى إبراهيم عليه السلام ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب! أصحابي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح وكنت عليهم [ ص: 41 ] شهيدا ما دمت فيهم - إلى قوله: وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " ورواه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر يقول: الترمذي بنحوه، ومن نحو ما قال والنسائي عيسى عليه السلام قول إبراهيم عليه السلام كما حكاه الله عنه فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم وروى في الإيمان من صحيحه مسلم في التفسير عن والنسائي رضي الله عنهما عبد الله بن عمرو بن العاص إبراهيم عليه السلام" رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني الآية - وقال عيسى عليه السلام إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم فرفع يديه وقال: اللهم أمتي اللهم أمتي اللهم أمتي - وبكى "، فقال الله عز وجل: يا جبريل، اذهب إلى محمد - وربك أعلم - فاسأله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله: فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك" ، وللشيخين في الحوض والفتن "أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في في فضل النبي صلى الله عليه وسلم عن ومسلم سهل بن سعد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وأبي سعيد - زاد "أنا فرطكم على الحوض، من مر على شرب، ومن شرب لم يظمأ [ ص: 42 ] أبدا، ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم" رضي الله عنه: أبو سعيد فأقول: "إنهم مني - فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقا سحقا لمن غير بعدي" ولمسلم - وهذا لفظه - عن وابن ماجة رضي الله عنه قال: ابن مسعود ولفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فذكر خطبته في الحج ثم قال: "ألا وإني فرطكم على الحوض وأكاثر بكم الأمم، ولا تسودوا وجهي، ألا وإني مستنقذ أناسا ومستنقذ مني أناس فأقول: يا رب: أصحابي أصحابي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" : مسلم "أنا فرطكم على الحوض ولأنازعن أقواما ثم لأغلبن عليهم فأقول: يا رب! أصحابي فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" عن ولمسلم رضي الله عنهما قالت: عائشة
"إني على الحوض أنظر من يرد علي منكم، فوالله ليقطعن دوني رجال فلأقولن: أي رب! مني ومن أمتي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، ما زالوا [ ص: 43 ] يرجعون على أعقابهم" وللشيخين عن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو بين ظهراني أصحابه: رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أبي هريرة وفي رواية: "ترد علي أمتي الحوض وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله، قالوا: يا نبي الله! تعرفنا؟ قال: نعم، لكم سيما ليست لغيركم تردون علي غرا محجلين من آثار الوضوء، ولتصدن عني طائفة منكم فلا يصلون، فأقول يا رب هؤلاء أصحابي، فيجيبني ملك فيقول: وهل تدري ما أحدثوا بعدك؟ وفي رواية بينما أنا قائم على الحوض إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج من بيني وبينهم رجل، فقال: هلم; فقلت: إلى أين؟ فقال: إلى النار والله، فقلت: ما شأنهم، فقال: إنهم ارتدوا على أدبارهم فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم. أي ضوالها - أي الناجي قليل، في الوضوء: لمسلم قال ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقا سحقا" المنذري: [ ص: 44 ] والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا.